“حكايات نجيع”، متعة روائية

0 779

سماورد

كيف يمكن للقارئ أن يتعرف على رواية بعينها ويكون لديه حرية اختيارها، وتتشكل لديه قناعة أثناء قراءتها أنه يكتشف عالمًا من المتعة المدهشة؟  لعل هذا من بين تساؤلات القراء الباحثين عن الجديد والمغاير، في وجود هذا الكم الهائل من النتاج الروائي المتسيد على سائر الأجناس الأدبية. ولعل الصعوبة تشتد تعقيدًا حين يتعلق الأمر بالعمل الروائي الأول لكاتب ليس من أولئك الذين استطاعوا تكريس اسمائهم من خلال أعمال سابقة. يقول الكاتب المغربي خالد أخازي، في شهادته حول روايته الأولى:” هناك روايات تم الترويج لها كبضاعة مثيرة: حملات إعلامية، وأقلام، وصحف، ولقاءات؛ وهي دون المستوى بل صنعها “الماركتين” الثقافي.. هناك روايات بمستوى عالمي مهملة؛ لأنها محاصرة بالآلة الدعائية التي غدت تصنع النجوم كما ميادين كرة القدم.” القسم الثاني من هذه المقولة قد ينطبق على رواية “حكايات نجيع” للسوري ربيع مرشد الصادرة عن دار ممدوح عدوان (2018، في 176 صفحة).

هذه الرواية ربما لم تحظَ بأي مطالعة منشورة عنها؛ ومما زاد بقائها مجهولة الهوية، أن مكتبات البيع على الإنترنت مثل نيل وفرات، وجملون، وربما المكتبات الأقل شهرة مثل نادي الكتاب، أو حتى منصات البيع غير المخصصة لبيع الكتب مثل أمازون؛  لم تضع جميعها إلا صورة غلاف الراوية، فيما أضافت المنصتان الأَوْلَيان الفقرة التالية كنبذة تعريفية لها:

“آلاف العائلات المنكوبة من الجهتين، كلٌّ يسمي فقيده شهيداً. وإنانا فهمت بعد تشظي أخوتها أن الحياة كما اعتادتها انتهت إلى بحر من الألم الذي غدا هوية هذا الشعب. محاطة بكل هذا الموت، تلتقي إنانا بسرجون الذي يحكي لها الموت ويروي قصة غامضة من عصر سابق عن جده”

فهذه الفقرة لا تشي بحقيقة هذا العمل. وإن كان للظروف السورية المشتعلة دمارًا دور في الحبكة؛ إلا أنها لم تحشر نفسها فيها، ولم تتكئ على مآسي المشهد السوري المستمر في قسوته، ولم تحاول التوسل بالآلام الإنسانية لتسجيل شهادات لتنتصر بها عبر سردي بكائي، أو تحويله لمرافعة خطابية. هذا العمل يمكن أن يوصف بأنه ينطبق على الحياة وفي مختلف ظروفها؛ الحياة كما هي “الألم في البداية، والألم في المنتهى، وبينهما ذاكرة الوجع اللذيذ” (ص62).

الرواية التي افتتحت مشهدها الأول بلحظة ليست هي البداية، وما تلاها لم يسر بالأحداث في تسلسل زمني متتابع، ولم يكن هذا المشهد أيضًا لحظة النهاية كي ترجع إلى الماضي بإضاءات خلفية لتنتهي من حيث بدأت. كان الزمن يناوب في تنقلاته بين الماضي البعيد والقريب واللحظة الآنية والمستقبل المفتوح. القارئ لا ينتظر فقط ما سيحدث، بل يترقب ليرى ما حدث وما يحدث الآن وما سيحدث، وكيف ولماذا. هذا التنقل الزمني المتموج جيئة وذهابًا، يطرق أبواب حكايات تبدو مساراتها كغرف موزعة. بدايةً، قد تبدو كل غرفة، بساكنيها من الشخوص وما فيها من اجواء، أنها تشي بانفصالها عن الأخريات مكانًا وزمانًا وأحداثًا. كل حكاية أو غرفة بها من الصناديق المختلفة: غرفة بها صناديق الشجع وحب التملك الاعمى، والجبن الغدر والقتل غيلة؛ غرفة بها صناديق الفقر والعوز والهجرة والتنقل والصمت عن الجرائم؛ غرفة بها صناديق قبيحة مليئة بالقذارة وسقوط القيم؛ غرف الآلام؛ غرف الحب والفقد واللوعة؛ غرفة التشبث بالبقاء، غرف الأمل وما فيه من أحلام؛ غرف الاختلاف والتصارع؛ غرف البحث عن الذات وعلاقتها بالجسد … وغيرها. توالي فتح هذه الغرف المفصولة توَّهْمًا لا يؤدي إلى الكشف الكامل لها، أو كشف ما في صناديقها دفعة واحدة؛ فالدخول والخروج والتنقل المتكرر فيما بنيها يبقي القارئ متيقظاً ومتحفزًا لمعرفة ما تحتويه كل غرفة، وذهنه متعلق ببقية الغرف؛ ليكتشف في النهاية، أن لا جدران هناك، وأن حركته ما كانت إلا مرواحة في ساحة مفتوحة، وأنه لم يكن ليستطيع رؤية المشهد باتساعه في هذه الساحة المفتوحة لو لم يفتش داخل هذه الصناديق المغلقة والموزعة.

لعل هذا الجدل بين الانفصال والتداخل ينطبق أيضًا على شخصيات الرواية نفسها؛ ففي تعدد أصوات الرواة التي كان كل منهم يَجِدّ في بحث مستمر عن شيء ما، عبر زمان ومكان يُحيل أحدهما للآخر في دوائر متقاطعة، تصل ذروتها في البحث عن الذات وغاياتها ورغابتها مع الجسد أو بدونه؛ إذ “ليس دائمًا يستطيع الجسد معرفة مكنونات أثيره إلا في الحالات العظمة المتماهية أو الإجرام اللامتناهي” (ص 66). إحدى حالات العظمة المتماهية، تجلت في الطبيب “نائل” (الشاب المغناج)؛ الذي “كان شغوفًا بالموضة وما تقدمه دور الأزياء” و”يحلم بالحمل” “وعاني من نبذ” “يضعه في خانة المسخ والشيطان” (ص21)؛ حيث بلغها أخيرًا، حين دافع بشراسة وقوة عن خصمه “هشام” الرجل الصلب، وانتهي بقرار شجاع بالقول:” “وجدت ذاتي أخيرًا في الأنثى، امرأة واحدة متصالحة مع أنوثتها، أهم من مئة رجل مهزوم من الداخل” (ص 150)؛ بينما هشام القوي برؤيته الواضحة للحياة وقع التباس شغل تفكيره حدّ الاضطراب حول “تلك العلاقة التمردية بين حامل ومحمول! حتمية قلب صانع ليخلد مصنوع …… لتبقى الحياة خلود ورق” (ص 148). ذلك ينسحب على بقية الشخصيات بما فيها سرجون الذي ظل يصارع للبقاء مقاومًا التلاشي، بينما أثيره يجول متحيرًا بين جسده وبين جسد طفل (جنينٍ في رحم أمه ووليد بعد الوضع).

هذه الرواية رائعة في مجملها، قالت في أغلب صفحاتها ما يجب أن يقال دون فائض من الكلمات؛ تمامًا مثلما “يقول رجل لامرأة ما: “إني أتنفسك”، وبعينين تنضحان صدقًا يشي برجفة، فهذا شيء رائع. لكن عندما تزيد على تلك الكلمتين: “بل أكثر من التنفس، أكثر منه بكثير”، ينحدر ويغدو كاذبًا كبيرًا، يراوغ لأجل شيء ما، الحب لا يحتمل التبجح”. (ص 141).

حكايات نجيع رواية غير “متبجحة” لأنها “صادقة”، ولكنها “مراوغة” في سردها لا لأجل شيء، سوى أن يقع القارئ في حبها.

<strong>ربيع فريد مرشد - سوريا</strong>

كاتب ورسام، وممارس للكتابة المسرحية وسيناريو الأفلام القصيرة والإنميشن.

مجاز من كلية الآداب ومدرس لمادة التاريخ.

صدر له:

– ليل وتجلّي المعنى، شعر، دار كيوان – دمشق، 2010

– الكائن الخاسر ظله، قصص، دار الغاوون – بيروت، 2014

– حكايات نجيع، رواية، دمشق، 2018

فاز بجائزة/قصة كاتب/ من اتحاد الناشرين الإماراتيين، الشارقة، 2014

وصل نصه “النجم الساطع” للمرحلة النهائية (أفضل ثلاث نصوص مسرحية) من جائز الدولة لأدب الطفل بقطر، والتي تأجل الإعلان عن نتائجها بسبب الأزمة الصحية العالمية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.