رغوة سوداء تطفو فوق كوب فارغ

0 461

حسين الضو – السعودية

 

بين فترة وأخرى يراودني فضول يعيدني لقراءة المنتج الروائي العربي، هذه المرة قادني فضولي لرواية حجي جابر “رغوة سوداء” الصادرة عن دار التنوير عام 2018، والسبب استحساني لحد ما لأسلوب حجي الروائي في “لعبة المغزل” الصادرة عن المركز الثقافي العربي 2015، والسبب الآخر يعود للاستقبال الجيد للرواية والاحتفاء بها وتتويجها بجائزة كتارا عام ٢٠١٩.

تحكي الرواية قصة “أدال” المولود عبر علاقة غير شرعية في جبهات القتال في اريتريا، أبناء مثل هذه العلاقة يطلق عليهم “ثمار النضال”، ويتحتم عليهم العيش في مدرسة الثورة دون انتماء على الإطلاق. يتنقل القارئ من خلال الرواية بين مراحل حياة “أدال”: في مخيم “بيتا إسرائيل”، في اثيوبيا الذي يُعِد جماعة اليهود هناك دينيا وثقافيا قبل تهجيرهم إلى “أرض الميعاد”؛ وفي حياته قبل ذلك في مدرسة الثورة؛ وفي حياته في إسرائيل والأراضي الفلسطينية. في هذه المراحل، يتنقل أدال بين داويت وديفيد وداوود.

لن أطيل إخفاء عدم رضاي عن الرواية. وهنا سأوضح ذلك بشيء من التفصيل. كما أعترف أنني لا أحبذ نقد مثل هذه الروايات التي يصعب كتابة قراءة إبداعية حولها لكونها مباشِرة؛ وهذا يعيق عملية التحام القارئ مع النص لاستنباط بواطن المعنى غير الموجودة أساسا. لذلك، سأكتفي بالتعليق على مشكلات النص من خلال عناصر الرواية الرئيسة كالحبكة والشخصيات والثيمات وغيرها، ومنها أتعرض لمشكلات لا تخص هذه الرواية وحدها بل ربما روايات عربية أخرى وممارسات في الكتابة الروائية في العالم العربي.

(1)

سأبدأ أولا بما هو سهل وهو الحبكة، فهي لا شيء في الرواية سوى الحدث، أي أن القارئ لا يقرأ سوى متواليات من التوصيفات الخارجية لما يحدث لأدال، وكثير من هذه الأحداث تكون بدافع تعريفي إما لثقافة الناس في إسرائيل أو لبعض التقاليد اليهودية. على سبيل المثال، طقوس التعميد، أو أن هذه الأحداث فقط لغرض ذكر معلومات موسوعية نتاج بحث الروائي وأراد إقحامها في النص لإعطاء الرواية شيئا من الواقعية؛ وهذه طريقة تشير إلى الخلل المعرفي الكبير عند الروائيين العرب حول مفهوم الواقع والواقعية والحقيقة. أما ما يسرده أدال من تفاصيل حياته على الأوروبي في مقابلة إعادة التوطين في دولة أوروبية، فهو غير مقنع على الإطلاق، لماذا يسرد لاجئ تفاصيل غرامية دقيقة لا علاقة لها بالموضوع إلى مسؤول يقوم بمهمة ذات حساسية، سوى أنها أداة غير مقنعة لتمنح الراوي سببا لسرد روايته. كما أن هناك جزئية برزت بشكل خجول جدا لا ترتقي بأن تصنف على أنها حبكة ثانوية، وهي شخصية الشابة الفلسطينية التي طلبت مساعدة أدال في بحثها حول الحالة النفسية للاجئين عبر دراسة الجانب الجنسي من حياتهم. لم تتطور هذه الجزئية في الرواية ولم تحفر عميقاً في دواخل شخصية أدال.

بما أن حبكة الرواية عبارة عن متسلسلة طويلة من الأحداث الخارجية، فذلك يعني أن مساحة العمق النفسي للشخصيات سطحية وغير متبلورة. جميع شخصيات الرواية -باستثناء أدال- كانت في غاية السطحية، إذ اقتصر حضورها على مشاهد قصيرة تعبر بشكل واضح عن خلو جميعها من الخلفية الدرامية “Backstory”؛ ولذلك وجودها في الرواية وجود ظرفي كي يدفع متوالية الاحداث تلك لتستمر حكاية أدال. جميع الشخصيات تسرد حكايتها بشكل سريع في نصف صفحة بشكل يخلو من التجربة الحياتية المقنعة. على سبيل المثال، تشرح “سابا” قصتها وكيف أصبحت ثرية تمتلك فندقا فاخرا بشكل مختصر للغاية فقط لتبرر امتلاكها لذلك المال التي أعطته لأدال وأدخله مخيم بيتا إسرائيل. حبيبة أدال “عائشة” هي الأخرى ليس لها أي خلفية درامية، وجودها فقط ليزيد من توتر حياة أدال في مدرسة الثورة ومخرج سريع لنقله من المرحلة الأولى من حياته إلى المرحلة التالية. يعقوب الذي التقاه في تل أبيب ليس له وجود حقيقي على الإطلاق، بل أداة ساذجة تفتعل محادثات لا تتسق مع النص بشكل عضوي ليسرد الروائي معلومات مملة على لسان أدال. وهذه السطحية في الشخصيات برزت بشكل فاضح في الشخصيتين العربيتين في نهاية الرواية، وهم يفتعلون محادثة يتهم الأول فيها الآخر بأنه إسلامي متزمت والآخر يتهم الأول بأنه شيوعي.

(2)

أعتقد أن الكلمة المفتاحية هنا لفهم ضحالة هذا العمل هي: الوتيرة، الرواية تسير بشكل سريع في كل شيء؛ وهذا هو السبب الرئيس لظهورها بهذا الشكل غير المقنع، وعلى الرغم من اعتماد حجي أسلوب التشويه الزمني، حيث ينتقل القارئ بشكل مبعثر زمنيا -ومكانيا- بين فترات حياة أدال، إلا أن هذه التقنية لم تساعد في إبطاء وتيرة الرواية. قد يرجع هذا التسارع إلى رغبة الروائي في تناول موضوعات كثيرة ودمجها مع بعض المعلومات الموسوعية دون وجود القدرة على الحبك المقنع أو بناء الشخصيات. وهاتان المهارتان ترتكز بشكل رئيس على عنصر واحد وهو الوتيرة البطيئة التي غابت عن النص.

(3)

توجد مشكلة جوهرية في هذا العمل تخص الموضوع وثيماته. موضوع الرواية الرئيس يدور حول محاولة شاب أفريقي من البشرة السوداء للنجاة، وعيش حياة ليست كريمة حتى بل عادية. من هذا الموضوع تتفرع ثيمات الرواية حول الهوية بأشكالها الثلاث: الوطنية والعرقية والدينية. ظهور الهوية الوطنية كثيمة كان الأضعف، ولم يبرز إلا على شكل أسئلة تكون عادة من الغرباء تخمينا للبلد الذي أتى منه أدال، فتارة يستطيع أن يمرر نفسه كإثيوبي بكل سلاسة وأحيانا يفضحه شيء ما إما لهجته الأمهرية أو شيء آخر، وأحيانا يُخمن بهوية أخرى كالسودانية. في كل هذه الحالات، نرى انقطاع مباشر لهذه الفكرة دون تطور يحفر عميقا في الاختلافات الثقافية بين هذه الهويات على الرغم من اشتراك بعضها في الدين والعرق. بروز الهويتين الدينية والعرقية كثيمات جاء أفضل، ولكن بأفضلية بسيطة جدا. بالنسبة للعرق، فلم يتجاوز حجي التقديم الكلاسيكي المبتذل للعنصرية، والذي ظهر عندما ذهب أدال إلى إسرائيل ورأى كيف تتجنبه الممرضات والأطباء، كما لو كان جرثومة تمشي على الأرض، ذلك بجانب الشتائم الصريحة التي كان يتلقاها من أناس عشوائيين مثل “يا عبد”، وهذه التصويرات للعنصرية في إسرائيل لا تأتي مفاجئة للقارئ أو غريبة، فمن يعرف المجتمع الإسرائيلي يعرف التمييز المتفشي فيه (فكرة شعب الله المختار وحدها تكفي!) إضافة إلى التمييز العرقي المشهور عندهم بين يهود الأشكناز (أصحاب البشرة البيضاء) وبين يهود العرقيات الأخرى كالعرب؛ ففكرة أن يمارس اليهود في إسرائيل العنصرية على السود بالشكل الذي طرحته الرواية لا يقدم جديدا للقارئ لا على مستوى المعلومة ولا على مستوى التجربة. يبقى أخيرا الهوية الدينية وهي ربما الأبرز في الرواية ولكن الأكثر ابتذالا أيضا، تتمثل في تنقل أدال بين الديانات الثلاث في مراحل حياته، وهذا يعكس تبدل اسمه بين داويت وديفيد وداوود؛ وكما أن فلسطين هي مكان مقدس للديانات الإبراهيمية الثلاث، رأينا أدال يرتبط روحيا بكنسية القيامة والمسجد والأقصى، وكيف دس ورقة في شقوق حائط المبكى كتب فيها أمنيته “النجاة”، ولكن لم يكن هناك الكثير من التصوير السردي لعلاقة شخص لا يفهم الكثير في الأديان ولكنه يائس ومستعد للتقرب لأي إله من هؤلاء الثلاثة لغرض الحصول على أمنيته البسيطة. لو عقدنا مقارنة بسيطة لغرض رؤية سطحية هذه الشخصية -وعادة لا أحب عقد مقارنات بين الروايات إلا لغرض التناص- ولكن هذه المقارنة تبدو مفيدة لمعرفة الخلل. لو قمنا بمقارنة شخصية أدال بشخصية هوزيه ميندوزا في رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي، لوجدنا الحفر النفسي الأعمق الذي قام به سعود في شخصية هوزيه أو عيسى الذي يخوض تجربة حياتية مشابهة لحياة أدال، فهوزيه نفسه لا يشعر بالانتماء الوطني ويشعر بالرفض ممن ينبغي أن ينتمي إليهم، لكن ركون هوزيه للدين كمخلص روحي لمأزقه بدا حقيقيا وواقعيا أكثر كمحاولة لحل هذا المأزق داخليا ونفسيا بعد أن فشل فيه خارجيا.

هذا يقود إلى ضرورة تعرية الفكرة الرائجة المعبَّر عنها بـ”القضية الانسانية”. هذا التعبير باستخداماته في الكتابات النقدية العربية مختزل بشكل كبير، ومقتصر فقط على سرديات المنطقة الكبرى كالعرق واللون والدين والانتماءات السياسية؛ بينما “القضية الانسانية” أعم وأشمل. كل قضية تعبر عن تجربة حياتية بما فيها من مآزق وقيم أخلاقية وتساؤلات فلسفية هي قضية انسانية تستحق الحضور في فن الرواية دون الحاجة للاستناد على فئة أو مجموعة كبيرة تخصها هذه التجربة. ليس من الضروري أن تكون موضوعات الرواية حول الهوية والأقليات كمجموعات فئوية أو الكوارث السياسية والنكبات الطبيعية. التجربة الانسانية أعم وأشمل وتفاصيلها تتقاطع مع تجربة القارئ الحياتية بشكل أو بآخر.

حجي جابر

(4)

تأثيث الرواية بعبارات عبرية وذكر أسماء الشوارع في إسرائيل لم يساهم في خلق فضاءات حميمية من الناحية الفنية للقارئ، كما أنه لم يساعد على رفع مستوى الإقناع والواقعية في الرواية، بل جاءت مزعجة لكثرتها، ومبرزة لخلو الرواية من مادة أدبية ثرية. البعض ينطلق في كتابته الروائية من المكان بتفاصيله كما نرى في روايات أمبرتو إكو، فهو لا يستطيع كتابة المشهد حتى يهندس المكان بتفاصيله الكاملة وبدقة متناهية – وإن كان ذلك في حد ذاته لا يعطي شرعية معرفية لأسلوب الكتابة هذه، ولكنه يظل أسلوبا سرديا تفرد به إكو، وربما يكون قد وظفه بشكل جيد في رواياته لمن يحب الغرق في تفاصيل المكان – أما ما قام به حجي جابر في روايته لم يكن إلا تفاصيل تستطيع الرواية الاستغناء عنها دون المساس ببنية الرواية، ولكن ذلك قد يؤدي إلى حذف ثلث الرواية، وهو على الأغلب شيء لا يود الروائي القيام به.

(5)

كلما حاول أدال الانكفاء على نفسه والانزواء عن الآخرين لحماية نفسه، يرى نفسه يعود مرة أخرى للسطح. كلما حاول الضمور في القعر، يعود ليطفو مرة أخرى. وهنا تبرز رمزية الرغوة، و(السوداء) إشارة إلى لونه، لكن يبدو أن تجانسا آخر بين هذه الرمزية والرواية، وهي السطحية. هذه الرواية بالمجمل كرغوة تطفو على السطح، فليس هناك حبكة معقدة طويلة ومتشابكة تلتقي أطرافها بإتقان تثير دهشة القارئ كما في الروايات الشعبوية لكارلوس زافون مثلا، وليست كتلك الروايات ذات الاشتغال المسهب حول الشخصيات التي تتحدى قيمهم ومواقفهم وفلسفاتهم الحياتية كما في كلاسيكيات الأدب الإنجليزي الحديث، وليست كتلك الروايات التجريبية التي تعيد تعريف الرواية من جديد كصنعة وفن متجدد، ولا حتى المقادة بالثيمة كروايات كونديرا؛ بل هي رواية تمثل نموذجا مثاليا للكلاسيكية المبتذلة للروايات العربية المعاصرة، ووصفة طُبخت بعناية لتنافس في مجال الجوائز الأدبية التي بدت تفقد قيمتها الفنية، وتعزز من تكاثر القراء الكسالى المستهلكين للروايات المباشرة. قد يكون سبب ظهور هذه الرواية بهذا الشكل -بالإضافة للأسباب السابقة- هو اختيار حجي جابر أن يكتب حول تجربة لا تتصل بتجربته الحياتية إلا عن بعد، حيث لا يتقاطعان إلا في البقعة الجغرافية، ولذلك ظهرت الرواية بشكل غير مقنع على كل المستويات. بل أرى أن هذه الرواية مثال نموذجي آخر على غياب الشكل الروائي في الروايات العربية المعاصرة، فالاشتغال السردي كان حول الموضوع؛ والموضوع وحده دون الأخذ بالاعتبار العناصر الأخرى الذي ذكرت كالشخصيات والثيمات وغيرها، والتي يشكل الاشتغال عليها لب الشكل في الرواية.

  ختاما، تقدّمَ حجي جابر بالشكر لكل من ساهم في هذه الرواية سواء بالمعلومات المعرفية لعلم النفس، أو التسهيلات الإجرائية للذهاب إلى فلسطين وجمع المعلومات. وهنا لا أستطيع تجاوز هذه الفقرة كعتبة من عتبات النص، إذ تحاول هذه العتبة أن تخادع القارئ بأن النص المقدم هو نتاج بحث طويل وعمل معرفي شاق تحاول أن تستند عليه الرواية وليكون رافعة له؛ وهذه إحدى إشكاليات الرواية في العالم العربي، وهي تقدير جهود الروائي عوض الخوض في تفاصيل ونقد النص ذاته الذي لم يظهر فيه أي من نتاج هذا الجهد، بل كانت العتبة وسيلة ومغالطة لفرض جودة الرواية على القارئ. أتمنى أن يعود حجي جابر في روايته القادمة لأسلوبه السردي السابق كما في لعبة المغزل، فقد كان أكثر أصالة وإبداعا من الناحية الفنية على أقل تقدير.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.