جوزيف حرب… شاعر الرؤى والمسافات

0 436

بادر سيف – الجزائر

لابد للشعر أن يبقى على قيد الحياة، أن يبقى ابن الحلم تارة والوهم تارة أخرى، لذلك كانت كل كتابات وأعمال الشاعر العربي اللبناني جوزيف حرب بدورها مفتوحة على كتابة ثانية بالمعنى الدينامي، أي تتصافح فيها إشكالات الكتابة الشعرية والسردية، كلما هيمن الشعر أكثر وتحكم وأوثق.

من هذا الأقنوم كان جوزيف حرب حارسًا ضد فظاظة الطبع، وصنو الجسد القادر على ارتجال مباهجه والاحتفاء أيضًا بالخسارات غير المرتقبة، دون إحياء كاذب أو ادعاء شجاعة، وتتميز أشعار حرب بالكلمات المؤثرة الرومانسية، كلمات يملؤها الحزن والعاطفة والشعور بالوحدة والوحشة؛ وهذا مقتطف من نص (لما عالباب)، والذي غنته السيدة فيروز:

بيسكرني

شوفك ماشي عالطريق/فكر انزل اركض خلفك عالطريق/ وتشتي علي ما تشوفك عيني

وأنا اركض وراك أمدلك أيدي

واندهلك وانظرني حبيبي… وما تسمع

وكانت لا تمر أغنية لفيروز مرور الكرام بلا كلمات ينسجها الشاعر جوزيف حرب، وكحياته تمامًا لم يكن جوزيف ليقف في مكان وسط من الخيارات؛ إذ كانت قصائده تتسع لتملأ آلاف الصفحات كما في معلقته – المحبرة – الأكثر طولا في الشعر العربي، فالرجل يملك مخيلة برية لا تكف أحصنتها عن الركض في الأماكن غير المأهولة بالكلمات. شعره حصيلة تلاقح بين ضوء الشمس وطراوة الينابيع، بين الصور المباغتة والإيقاعات المتوهجة كالنايات. إنه استنفار للحواس وانتشاء بفويضات الروح، بفرح العالم و خفة عناصره التكوينية، انبثاق دائم الحركة الخلق والعودة المستمرة إلى كنف الطبيعة مرفدة القصائد بكل ما تحتاجه من صور وأطياف وتجليات.

الشاعر جوزيف حرب الذي قلب أوراق الزمن المر. الشاعر الارستقراطي في صومعة الشعر على سن الرمح؛ ينشر في قصائده جمر الرماد على ملح اللغة لتكون مطواعة بين يديه، ويفتح شبابيك مفرداتها عل حقول اللوز. كان من الممكن أن يكون مؤرخًا أو فيلسوفًا أو باحثًا في التراث، لكنه اختار الشعر بوجهيه الشعبي والفصيح ليتربع، أو يحتل فيه، مكانة علية حتى لتحتار أي وجه فيه تحب؛ وهو الإنسان الذي عاش حياة ينزع فيها إلى العصامية، وفي كثير من الأحيان إلى (الاعتزالية)، إلا مع الحبر والكتابة؛ وهو الذي أعطى لفيروز أجمل الأغاني التي صاحبت صباحات الناس بكثير من الحميمية والشغف والجمال.

تفرغ للكتابة في قصره الجنوبي على تلة في بلدته المعمرية على الساحل القريب من صيدا، أين أقام في اللغة ومارس طقوس مقارعة الموت بالقصيدة والكلمة؛ باحثًا عن وقت إضافي؛ موازنًا بين الزمان وتسارع المكان. في هذا المكان المقدس لديه، صرح لأحد الصحف العربية “منذ الطفولة يراودني إحساس بأنه لم يبق لي وقت”. لقد فاضت تجربة الشاعر جوزيف حرب شعرًا وأدبًا وثقافة، وأسهمت قصائده في ترسيخ النمط الشعري اللبناني المُغنّى، وارتبطت قصائده بصوت السيدة فيروز والأستاذ مارسيل خليفة. ما يلفت النظر هو أن الشاعر الذي اتسع شعره إجمالًا بذهنية ومنطقية وبلاغية لم يخلو شعره من الدفء في السابق ليصبح مع مر الأيام والسنين أكثر دفئًا وحرارة وامتلاءً بالمفجع المحزن، مع محافظة جلية على سماته السابقة.

قليلون هم الشعراء الذين سكنوا قلوب عامة الناس ونخبتهم، وقليلون الذين جمعوا بين شعر الفصحى والعامية بمستوى الإبداع ذاته ، لكن جوزيف حرب حتما هو واحد منهم، فلغته الشعرية تكاد تكون نفسها في قصائده بالفصحى والعامية؛ فالصور والألفاظ والكلمات مستمدة من حقل واحد (الريف)، ذلك الريف بفطرته ونقائه كان دوما مصدر إلهام الشاعر، فأحبه الناس لقربه منهم كما أحبوا رومانسيته وثورته ووطنيته العارمة؛ لأنه وبصدق شاعر الغيم متأبطًا مسالك الريح، فالطبيعة التي طالما ألهمته احتضنته أخيرًا، ليرحل الشاعر عن عمر يناهز 70 سنة، تاركًا إرثًا شعريًا لن يضيع فيه من جماليات اللغة والصور والحنين ما يكفي لإحياء ما تبقى فينا من ذكريات النقاء والطفولة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.