قصيدة غسان: طقوس الحضور والغياب

غسان... الصُنْدوقٌ المُكْتَظُّ بٱلأوْهام. الوَحيدٌ كَمَعْبَرٍ بَيْنَ أشْجارٍ ذاوِيَة.

0 207

محمد الحرز – السعودية

بهدوء الواثق يتسلل الشعر إلى قصيدة الشاعر غسان الخنيزي وكأنه يعلم أن ثمة كلمات تنتظره على العتبات وعند الدرج وفي الصالة أو بين الممرات، تنتظر عسل المخيلة المملوء به جراره، تنتظر ما يفيض عليها به إلى آخر قطرة من طعمه الشهي. ثم لا يبقى انتظار بعدها ولا قبلها، الامتلاء هو وحده الذي يتردد بينهما، هو ما تقوله القصيدة وما لا تقوله في نفس الوقت، هو ما لا تراه أثناء اليقظة، وما تراه أثناء الوهم.

خيط العسل الشفيف الذي يتركه الشعر خلفه لا يرى من فرط لمعانه، ولا يترك له أثرا على التراب من فرط صفائه.

يدخل الشعر ويخرج من قصيدته كأنه يدخل صومعته اليومية حيث يتوحد فيها مع نفسه ويناجيها بصوت خافت، لا يسمع فيها سوى نفسه، هو الداخل الخارج والخارج الداخل من غير تمايز أو تفارق. وكأني بغسان ماسكا بيد قصيدته، وباليد الأخرى رافعا قبعة التخفي راميا بها فوق رأسه، مغطيا بها جزءا من ملامح وجهه؛ كي لا يقال: “هذا هو الشاعر، وهذي هي قصيدته”.

تماما كما لو أن الشعر لا يريد الكشف عن هويته، لا يريد الكشف عن جوهره الغامض إذا ما جاءت القصيدة سافرة عن نفسها، معلنة عن حضورها بقوة أمامه.

طقوس الحضور والغياب أمام الشعر، قصيدة غسان تجيدها أتم الإجادة.

مواقيت المناجاة وأماكنها أيضا من خصائص قصيدته.

لذلك هذا الهدوء الواثق هو الوشيجة الكبرى التي تصل شخصية غسان بقصيدته، وشيجة تفاعل في أغلب الأحيان وليست تطابقا، وشيجة تسم القصيدة بميسمها، فتنتج خصوصيتها في إطار ما يكتب، وفي إطار ما يراه وما يحسه، وما يلمسه وما يفكر به، كل ذلك في حدود حياته الخاصة وتقاطعاتها مع حياة الآخرين والعالم.

قصيدة غسان لا تتقن الصراخ، ولم تجرب بوقا في شد انتباه الكلمات إليها.

كل ما تتقنه هو أنها تستخدم كل طريقة من شأنها أن تحفز المخيلة على القول، ومن ثم التحليق بها إلى قدر ممكن في الفضاء:

تستحضر الجمال، الموسيقى، الرائحة، المكان المأهول بروح الأسلاف، الجسد،التوحد في النظرة إلى الحب والطبيعة، التوق إلى القصي والبعيد، إلى ما خلف الأشياء من طاقة وغموض.

وقصيدته فيما تختبر نفسها، لا تقترح،أنها فقط تصف روح الإحساس الخارج من العمق معتمدة في ذلك على السرد وتقنياته المتعددة.

هكذا هو غسان وهكذا هي قصيدته.

طيران..

في الصبح بيني وبينك نومة، أو محيط أطلسي، فيه مدن وأفعال ومراكب وسهوب وغدران وأناس صغار.كنا نورسين أو غيمتين، حين سقطت مياه من سماء غرفتك ومن وجهك، وصارت تنساب في الزوايا والمخلوقات الصغيرة احتمت بالتضاريس وبالشراشف من سيول وزوابع،  لا ترى بالعين، عصفت بالنيكروبات، وبالعثة التي في الأثاث.

كان لا بد من روحك الشقوفة عليهم، كان لا بد من مسرب لكل ذلك، كجارور أو إناء معدني، كان حريا أن تستحمي بتلك المياه. أرفع جسدك قليلا لينفرد شعرك على البلاط، كان حريا أن أكون نورسا ويكون ظهرك غيمة بيضاء.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.