تحليل مسرحية البطة البرية لـ هنريك إبسن في ضوء المدرسة الواقعية

ورشة فن - مسرح

0 951

أفنان مندورة – السعودية

تتميز المدرسة الواقعية أنها قادرة على نقل الحياة الواقعية إلى الجمهور بأسلوب فني في المضمون والرسالة بعيدا عن النقل الحرفي، وهذا ما فعله هنريك إبسن (1828م – 1906م) في مسرحية البطة البرية، وهي مسرحية اجتماعية، انتجت عام 1884م، فجسد الغنى في شخصية التاجر هاكون فيرله وشخصية ابنه جريجورز فيرله، وجسد الفقر والمعاناة في شخصيات عائلة اكدال الرجل العجوز، وابنه المصور يالمر اكدال، وزوجة يالمر جينا اكدال التي كانت سابقا خادمة في منزل هاكون فيرله وكان اسمها جينا هنسن، وهدفج ابنة يالمر وجينا وعمرها 14 عاما. كما صور هنريك إبسن المثالية في شخصية جريجورز فيرله، الباحث عن الحق والعدل، الذي لا يرضى بالظلم ويطالب بالعدالة، فيحدث الصراع بين المثالية والزيف، حيث أخبر يالمر اكدال بالحقيقة القديمة التي كانت بين هاكون فيرله واكدال وأسباب الخسائر المالية التي عانى منها اكدال بعد أن كانا شريكين في تجارة الخشب، حيث اختلسا معا ولكن هاكون فيرله نجى وألصقت التهمة باكدال وسجن مدة من الزمن، ليخرج من السجن ليجد نفسه بدون مال ولا كرامة.

ومن سمات المسرحية أنها تعرض المشاكل التي يمر بها الناس والأوضاع التي يعاني منها الفقراء بسبب قلة الحيلة وصعوبة المعيشة بموارد قليلة ودخل متواضع، وهذه سمة من سمات المدرسة الواقعية التي ألتزم بها هنريك إبسن، وتأتي الحلول على يد هاكون فيرله الذي يشغل اكدال في مكتبه، وينشأ استوديو للتصوير ليعمل فيه يالمر اكدال ويزوجه جينا التي كانت تعمل لديه خادمة في المنزل، حيث يجسد هاكون فيرله الزيف والنفاق الذي يمارسه الرجال ليخدعوا الناس بهم ويوهموهم أنهم محترمون، وقد بدأ يدافع عن نفسه أمام ابنه الذي يهاجمه باستمرار قائلا: “البراءة معناها غير مذنب، لماذا تحاول أن تذكرني بهذه المسألة القديمة المؤسفة، هذه المسألة التي شيبتني قبل الأوان، هل هذه هي المسألة التي كنت تفكر فيها طوال هذه الأعوام هناك في المصنع، أؤكد له يا جريجورز بأن أهل هذه المدينة قد نسوا كل هذه القصص منذ مدة طويلة فيما يتعلق بسمعتي أنا على الأقل” ([1])، وفي موضع آخر بدأ يبرر لنفسه سبب مساعدته لعائلة اكدال قائلا: “ماذا كنت تريدني أن أفعل بالضبط لمساعدة هؤلاء الناس، عندما أطلق سراحه، كان اكدال رجلا محطما لا تجدي معه المعونة، صدقني يا جريجورز، لقد فعلت ما في طاقتي لمساعدتهم دون أن أعرض نفسي للشبهة والقيل والقال” ([2])، ولكن ابنه جريجورز يطلب منه إعادة حق عائلة اكدال المادي والمعنوي تحقيقا للعدالة، فيرفض هاكون فيرله طلب ابنه، ويستمر الخلاف بينهما.

 إن المدرسة الواقعية لا تنقل الواقع كما هو بل تحاكيه، وتسرد الأحداث من الخيال والمتوقع حدوثها في الواقع، وتعالج الأحداث بطريقة فنية، وهذا ما فعله الكاتب هنريك إبسن مع شخصية هدفج ابنة يالمر وجينا، التي تعاني من ضعف في النظر، وهي تعتني بالبطة البرية المصابة في جناحها فأصبحت لا تستطيع الطيران وفضلت البقاء في منزل عائلة اكدال، لتتخلى بذلك عن حياتها البرية لتعيش حياة مختلفة عن طبيعتها، فكانت البطة البرية مصدر السعادة في المنزل بالنسبة لهدفج واكدال، وعندما يعلم يالمر بالحقيقة يقرر أن يقتل البطة البرية لأن وجودها يذكره بما فعله هاكون فيرله بعائلة اكدال وماضي زوجته جينا معه، ولكن هدفج تدافع عن البطة البرية بسبب تعلقها بها، وتقول هدفج في حوار دار بينها وبين جريجورز فيرله: “لا أعتقد أن والدي يروقه هذا، إن موقفه غريب جدا من مثل هذه الأمور، تصور أنه يريدني أن أتعلم أشياء سخيفة كعمل السلال وشغل القش، إنني لا أرى أي فائدة أجنيها من هذا” ([3])، وعندما يطلب منها جريجورز فيرله قتل البطة البرية ليعود والدها للمنزل، فتقتل هدفج نفسها بدلا من قتل البطة البرية، كأن هنريك إبسن يريد إيصال معنى أن حياة هدفج والبطة البرية متشابهتان، فكلتاهما عاشتا حياة لا تشبههما وليست على طبيعتهما.

  كانت الشخصيات في المسرحية من واقع الحياة، فهناك التاجر – العامل – المصور – الطبيب – الموظف – الخادم – الطالب، كلها شخصيات موجودة في الحياة الواقعية، استطاع هنريك إبسن أن ينقل صراعاتهم مع الحياة الاجتماعية، وهو بذلك يجسد أفراح وأوجاع الإنسان العادي، بحيادية وموضوعية وبدون الانحياز لإحدى الشخصيات، وهذه سمة من سمات المدرسة الواقعية.

 جعل هنريك إبسن شخصية يالمر اكدال تواجه الصعاب والحيرة، فهو يسعى ليكون زوج سعيد وأب مثالي وابن بار، ولكن قلة الحيلة المادية تجعله مكتوف الأيدي، فهو خائف على ابنته التي بدأت تفقد بصرها ولا يعرف ماذا يفعل لها، ليتفاجأ بمحتوى الخطاب الذي احضرته مسز سوربى، والموجه من هاكون فيرله إلى ابنته هدفج، فيشك إن كانت هدفج ابنته حقا أم ابنة هاكون فيرله، ليعيش صراعا نفسيا مجسدا في شعور الخديعة والغضب مما يجعله يخرج ويترك المنزل.

 كما جعل مسز سوربى مديرة شؤون منزل هاكون فيرله تتزوجه في نهاية المسرحية، بل وتخبره بكل ماضيها، فيظهر جانب آخر من هاكون فيرله، فهو ليس برجل سيء تماما، وهذا يجعل يالمر اكدال في ذهول وتخبط، فيراجع نفسه ليرى تشابه في ظروف هذا الزواج وظروف زواجه من جينا، ويعود ويفكر هل المثالية التي ينادي بها جريجورز فيرله حقيقة أم زائفة ومضيعة للوقت.

     ومن سمات المسرحية الاسهاب في سرد التفاصيل، ولكنها تخلو من المونولوجات والحوارات الجانبية، وتتميز باستخدام لغة نثرية، لغة الحياة اليومية، بعيدا عن الجمل المعقدة والأسلوب الخطابي، وقد ختمت المسرحية بنهاية مفتوحة، كانت عبارة عن مناقشة بين رلنج وجريجورز فيرله عن المثالية، فرلنج لا يرى جدوى التعلق بالمثالية فهي وهم، قائلا: “أوه، إن الحياة محتملة، لو تخلصنا من هؤلاء الدائنين الملاعين الذين يأتون إلينا ملحين في تقديم ما يسمونه بمطالب المثالية” ([4])، بينما جريجورز فيرله عكسه تمام، فهو متعلق جدا بالمثل العليا مهما كانت مرارتها وقسوتها.

لم يلتزم هنريك إبسن بوحدة الزمان والمكان حيث جعل المسرحية في عدة أيام، وتنقل بالزمن في الفصول بين مساء وصباح، فمرة يكون الحدث في المساء من داخل غرفة الطعام، ومرة في حجرة المكتب، ومرة يكون بعد العصر من الاستوديو، ومرة يكون الحدث في الصباح، ومرة في حجرة الجلوس، وهذه من سمات المدرسة الواقعية التي لا تتقيد بوحدة الزمان والمكان.

إحالات:

([1]) هنريك إبسن: من الأعمال المختارة هنريك ابسن 2 البطة البرية، ترجمة عبدالله عبد الحافظ، وزارة الاعلام في الكويت، الكويت 1986م – ص 38.

([2]) المرجع السابق – ص 39.

([3]) إبسن: مرجع سابق – ص 96.

([4]) إبسن: مرجع سابق – ص 189.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.