حضور الكورونا في مسرحية (عندما صمت عبدالله الحكواتي) : إسقاطات سيميولوجية

ورشة فن - مسرح

0 976

الدكتور عباس القصاب – البحرين

عرضت مسرحية (عندما صمت عبد الله الحكواتي) عام 2014م، وهي من إنتاج فرقة مسرح الصواري، وإعداد وإخراج الفنان الأستاذ حسين عبدعلي، وتمثيل نخبة من فناني الفرقة يتقدمهم الكبير الفنان الأستاذ عبدالله السعداوي، والفنان المبدع الأستاذ محمد الصفار، وكل من الفنانين محمود الصفار، وباسل حسين، ومحمد المرزوق، وشاركهم أيضا مخرجها في التمثيل.

نال هذا العمل الفني اهتماما واسعا في مختلف محطات عرضها، لما تمثله من تجربة جمالية تمتزج فيها طريقة العرض والحبكات الدرامية وجدلية الحدث الدرامي بما يحمل من تعدد التأويلات وتباين الأسئلة، وانصهارها في عدة مدارس مسرحية، ومن وظيفة المتلقي أن يسقط انعكاس تلك الأعمال المحترمة على الواقع المعاصر، ومقاربتها له، بعد تحليلها بقراءة ثانية وثالثة، واستحضار ما فيها من رمزية، واستنطاقها بما يوائم من قضايا معاصرة كبيرة.

فقد داهم فيروس كورونا كوفيد 19 عالمنا بكل شراسة، مخلفا وراءه مجموعة لا حصر لها من الآثار السلبية على مجمل حياتنا: أفرادا ومجتمعات ودولا، شرها إزهاق الأرواح، والملايين من المصابين والمرضى، ومليارات من الأنفس القلقة التي جعلت كوفيد 19 يفرض خياره على الناس بحيث استطاع أن يكون هو المتكلم الوحيد الذي يستجلب القرارات ويفرضها بدون نطق أية كلمة في ظل صمت مدهش من الإنسان ذي الفكر والحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي المتعاظم.

هنا تذكرت الجنية في مسرحية (عندما صمت عبدالله الحكواتي) التي فرضت على الحكواتي الصمت المطبق، ثم تختفي، ولا ترى بعد ذلك؛ لتجعله منكفئا على نفسه، متدثرا بصمته، مشاهدا ما كانت عليه الأحداث قبل الصمت من فظاعات بشرية حكاها إليه أصدقاؤه، عسى ينطق ببنت شفة، ولكن لا جدوى من تلك المحاولات البائسة التي يمكن أن تكون بالنسبة إليه خيارا مفضلا في عدم الرغبة إلى الرجوع إلى عالم مبتلى بالشر والخداع.

يمثل عبدالله الحكواتي في صمته الحالة البرزخية التي تقع بين عالمين مختلفين، عالم الحكي الإرادي الممتلئ بالكذب، والخيانة، والنفاق، والفوضى، والتملق البغيض، والتغول في نشوة الرذائل، وهذا ما قبل كورونا التي تفننت في تعرية السلوك الإنساني المتوحش في تعامله مع الآخر المختلف، لتأتي الجنية (كوفيد 19) لتجعل ذلك الحاكي المتميز، صامتا متأملا؛ ليعيد نظرته مرة ثانية إلى مفاهيم الحياة وفلسفتها في دعة وسكينة بعد تألقه وامتلاكه ساحة الحكي والحكاية، وهو يرى ويسمع قصص الخيانات المختلفة، والشك الظالم، وما يترتب عليه من سلوك عنفي، وكذب مستطير منتشر، يقرب فيه الكذابون والمتملقون جراء ما ينحتون من أخبار وقصص ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنه لا يستطيع الحكي والتحدث جبرا.

يشكل صمت الحكواتي ذلك الهدوء الذي يجعله يعيد حساباته وينظم أولوياته في زخم الحياة البائسة الفوضوية، فيجلس متفرجا، وقل سلبيا مما يجري بانتظار من ينقذه من سحر الجنية وسطوتها، فهو اقتنص فرصة الصمت ليبقى فوق خشبة المسرح غير فاعل، حضورا فيزيائيا شكليا، متفرجا على الحدث، لكنه مبتعد عنه، ويعيش عزلة نفسية واجتماعية، بعد أن كان محط الأنظار، والانتظار؛ ليحكي ما تيسر له من أساطير وحكايات فانتازية لا طائل منها، هذا هو واقع الإنسان اليوم في ظل جائحة كوفيد 19، التي حيدته، وجعلته مبتعدا اضطراريا، مكتفيا بالتواصل عن بعد، منتظرا الآخر في انتشاله من دوامة القلق والخوف، واضعا كمامته على فمه (وهي تشكل في المخيلة الرمزية الامتناع عن الحكي)، فهو يسمع ويرى ولا يتكلم، ولا يصافح، ولا يعانق.

وضعت الجنية حدا للحكواتي (إنسان ما بعد الحداثة)، الذي بالغ في توحشه قبال أخيه الإنسان، وكل ما يحيط به من بيئة طبيعية، وسعى إلى تحطيم الأسس الأخلاقية بنيو ليبراليته المتغولة التي يفرضها على الآخر؛ بفضل ما يمتلك من بنى مالية ومادية ضخمة يتحكم فيها نفر من الناس، وكذلك أوضحت للحكواتي المعزول حجم كمية المخادعات وألوانها التي تلتصق بالبشر من خداع بالتدين، من أجل نزوات مؤقتة، وبشاعة الشك، ورعونة ردة الفعل المنافية للنفس الهادئة، واستمرار الفوضى الثقافية والفكرية في عالم اليوم الذي غرق فيه الإنسان وبات محكوما بقواها، حتى جاءت الجنية لفرملة ذلك الاندفاع الخطر.

استسلم عبدالله الحكواتي للجنية بعد أن استنفذ فرص النجاة من الحجر الصمتي، والعزلة الفعلية، وبعد حكايات أصدقائه واسترجاعها، ترك المبدع حسين عبدعلي حكواتيه صامتا وربما إلى الأبد، فقد كان خيار الصمت منذ ظهور الجنية إجباريا ولا إراديا، ولكن بعد انكشاف حقيقة الواقع اختار الحكواتي الصمت بقوة إرادته، حتى يعيش بعيدا عن عالم الزيف والكذب والخداع، حتى لو كابد العزلة بنفسه، فذلك خير من تصرفات أهله المقربين، ثم أهل حارته الحاسدين، وأصدقائه المضطربين.

هكذا بقي الناس اليوم مستسلمين للكمامة، بل واستأنسوا بها بعد تعودهم عليها، حتى التزموا بها في كل الأوضاع، وإن لم تكن الحاجة إليها مطلوبة، سواء كان اقتناعا، أم خوفا، أم تعودا، فذلك لا يغير الواقع، كما كان موقف الحكواتي المسحور من تلك الجنية التي أبقته صامتا صمت المستسلمين بل والتماهي مع ذلك الصمت، والراغب فيه فيما بعد، ما يدل على إرهاصات لتغييرات مقبلة على المستقبل القريب؛ وذلك لفداحة الخطب وجلله على المستوى الأخلاقي والاقتصادي والقيمي والسلوكي والثقافي والفني وغيرها.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.