رعوية بيتهوفن الخالدة

0 1٬227

خالد ربيع السيد-سماورد

عندما تستمع الى موسيقى فاغنر ـ أياً من أعماله ـ تستشعر على الفور ضباب القرى الألمانية النائية، أريج الصقيع المنبعث عبر أشجار الصنوبر الباسقة ، الجلافة البربرية الجرمانية، حروب الفايكنج، الرعب المدمر لمركز التأثر البشري. . ولهذا السبب الأخير كان حلفاء الحرب العالمية الثانية يستخدمونها في غاراتهم الجوية على الأهداف القتالية . .
قبل القصف تتقدم الطائرة الطوافة ، تحلق بإرتفاع منخفض ، تتدلى منها مكبرات الصوت العملاقة ، تصدح موسيقى فاغنر ، تبث رعباً مدوياً ، تزعزع الجلد المصطنع لمواجهة الموت ، تخوّر طاقة الروح الكامنة إلى أحط درجاتها ، وكان يتبع هذا التشريف الموسيقي المرعب طائرات الفانتوم والميج بقصف وحشي محموم ، أرتال من الموت أعدت بإتقان محكم . . هذا التأثير الموسيقي المخرب هو نوعاً من توظيفاتها التدميرية التي إكتشفه صانعوا الحرب الغلاظ .
غير أنه، على محمل آخر، لا ينطبق هذا التأثير على سيمفونيات بيتهوفن العظيمة، فسيمفونيته الخامسة على سبيل المثال والمعروفة بسيمفونية “البطولة“, وهي المقطوعـة الكلاسيكية الأشهر التي تحمل من دفقات الصلابة والعنف والقوة ما يترجم موقف بيتهوفن من مفهوم البطولة نفسه وما يشي بحالته الذهنية والنفسية في ذلك الحين . ونعجب إن عرفنا أنه كتبها في الوقت عينه الذي كان يستكمل فيه سيمفونيته السادسة المعروفة باسم “الرعوية” والتي توصف بكونها واحدةً من أكثر السيمفونيات هدوءاً ودعةً والتحاماً بالطبيعة .
لقد اشتغل بيتهوفن على العملين معاً , وربما في وقت واحد . وقدمهما معاً, في 22 (ديسمبر) 1808 في مدينة فيينا حيث أصيب الجمهور بدهشة بالغة : كيف يتمكن فنان أن يتمثل الحالتين في وقت واحد, عملان متناقضان كل هذا التناقض؟ ، كأن تكتب قصيدة هجاء الى درجة الهتك ، في ذات الحين الذي تكتب فيه قصيدة عشق حد النحيب. . كيف يتسنى ذلك؟.

’’بيتهوفن، بعدما صاغ موسيقى البطولة وعنفها, أراد أن يهدئ من نفسه وأن يعيد إلى موسيقاه عذوبتها التي كان قد عبر عنها في السيمفونية الثالثة’’

أوربما, للإجابة, يتعين الإكتفاء بالإشارة الى أن بيتهوفن , بعدما صاغ موسيقى البطولة وعنفها, أراد أن يهدئ من نفسه وأن يعيد إلى موسيقاه عذوبتها التي كان قد عبر عنها في السيمفونية الثالثة . أو  ربما, أمام هول ما كتبه في “الخامسة” أراد أن يخلق في ذاته توازناً يريحه. ومهما كان من أمر التفسيرات الا أنه من المؤكد أن السيمفونية السادسة أتت أشبه بعودة الفنان الى الطبيـعة . وربما أشارت مذكرات بيتهوفن التي كتبها في وقت تنويت العمل الى شيء من الإيضاح حيث يقول : ( أن كل عرض موسيقي سيخسر الكثير إن هو أراد أن يترجم كتأليف موسيقي ترجمة شديدة الأمانة له. لذا علينا أن نترك الى المستمع نفسه أمر توجيه مشاعره وأحاسيسه. ) من المؤكد أن كلام بيتهوفن هنا يتسم بوضوح لا بأس به, غير أن وضوحه سيكون أكبر إن ربطناه بالإصغاء الدقيق للسيمفونية السادسة, ذلك العمل الذي لم يكف الباحثون والمؤرخون والمستمعون العاديون من إعتباره معلماً من معالم الانتظام والجمال ونموذجاً في التوازن والقوة وقصيدة مستوحاة مباشرة من حس عميق بروعة الطبيعة وسحرها .

تتألف الرعوية من خمس حركات, الثلاث الأخيرة منها تعزف متواصلة دون أي توقف . والحركة الأولى عبارة عن “انطباعات جذلة يثيرها الوصول الى الريف”. أما الثانية فهي عبارة عن “مشهد عند ضفة النهر”, والثالثة “لقاء السرور بين القرويين”, فيما تضعنا الحركة الرابعة وسط “العاصفة”, لنعود في الحركة الخامسة الى أعلى درجات الهدود مع “غناء الراعي وفرحته وامتنانه للطبيعة بعد هدوء العاصفة”. إذاً, من هذه العناوين ندرك مدى إتباع العمل لحركة الطبيعة, في شكل قد يذكرنا ببعض لوحات بروغل , حتى من خلال وجوه القرويين وهم في ذروة الإحتفالات.
تعطي موسيقى بيتهوفن هنا,ومنذ الحركة الأولى, شعوراً بفرح مفاجئ, مدقع وداخلي يستولي على المستمع تماماً, إذ يشعر بأنه غارق وسط عالم مثالي كل ما فيه جلي, طاهر ونقي. ومن بعد هذه الحركة يجد نفسه فجأة وقد وصل الى حافة النهر فتصبح الموسيقى أكثر إندفاعاً وتصدح آلة الفيولونسيل وسط هدوء الطبيعة وعذوبتها, ما ينقله على الفور الى لقاء القرويين, حيث تصف الموسيقى مشاعرهم وهم يضحكون ويرقصون على إيقاع العديد من الأغنيات والأناشيد القديمة والفولكلورية ، الشعور وسط عيد قروي بهيج. ولكن هنا وبشكل مفاجئ, تبدو عاصفة عنيفة آتية من البعيد تزرع الرعب وسط الحفل القروي… العاصفة هنا ليست مجرد أداة رعب تفزع القرويين وتنسف عيدهم نسفاً أكيداً الأمر الذي يجعلها تبدو كناية ورمزاً لدى أي موسيقي آخر, بل هي عاصفة حقيقية وجزء من الطبيعة , تفزع الفلاحين وتوقف عيدهم.
لكنهم يعرفون أنها جزءً من حياتهم وكان عليهم أن يتوقعوها بصفتها عنصراً آخراً من عناصر الطبيعة وليس فعلاً تدميرياً من صنع الإنسان كما كان يفعل فاغنر .. وهكذا بعد أن سيطرت العاصفة موسيقياً, على الحركة الرابعة كلها, كان لا بد لها من أن تنقضي كما تنتهي أية عاصفة , وكان لا بد للطبيعة من أن تستعيد هدوءها ورونقها (هدوء ما بعد العاصفة) في شكل يبدو معه الهدوء عذباً وساحراً ، وهنا يبدو كما لو أن بيتهوفن تعمد زرع هذه العاصفة, لكي يمعن في إضفاء العذوبة أكثر فأكثر على الحركة الخامسة. إذ سرعان ما تتحول الموسيقى, مع هدوء العاصفة, الى نشيد رائع يمجد روعة الحياة ويعيد بهاء الروح في علاقتها بالطبيعة, وانطلاقاً نحو علاقة الروح بالخالق . ويبدو هنا وكأن بيتهوفن انما قاد خطى مستمعيه تدريجاً, حتى اللحظة التي هي بالنسبة اليه لحظة السمو الكبرى, لحظة التوحد بين المخلوق وخالقه , عبر المرور بنظام الكون … إنها حركة الروح المندفعة لتؤكد في نهاية الأمر ان الانسان ليس سوى جزء من الطبيعة, بل ربما يكون الجزء الأكثر التصاقاً بها وتعبيراً عنها . لذلك لا غرابة أن ينبعث مع كل لحظة من لحظات هذه السيمفونية وجيب الطبـيعة وألقها , الحياة والروح والانسان والبيئة والتظام في بوتقة واحدة … ولعل ذلك ما جعل بيتهوفن يقول عنها انها “تعبير عن مشاعرنا ازاء الطبيعة أكثر مما هي وصف لهذه الطبيعة”.
حينما كتب لودفيغ فان بيتهوفن (1770 – 1827) الرعوية كان في الثامنة والثلاثين من عمره, وكان قد صنع لنفسه مكانة مرموقة في التأليف السيمفوني ، و كان يسيطر عليه قبل الشروع في كتابتها لحن أوبراه الوحيدة “فيديليو” وبالتالي حثته رغبات عارمة لإستخدام الموسيقى كإنشاد أصوات بشرية, وهو الأسلوب الذي إتبعه حتى كتب “التاسعة” مستخدماً فيها أصواتاً بشرية حقيقية في حركتها الأخيرة .

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.