“هافانا القديمة” معزوفة التاريخ والجمال والفن
إدريس بوسكين – الجزائر
هي المدينة التي يجتمع فيها التاريخ والجمال والفن؛ هافانا القديمة أو “هابانا بييخا” كما يسميها أهلها، الحاضرة العتيقة الواقعة شمال العاصمة الكوبية هافانا، والمطلة على شواطئ الكاريبي الآسرة، بتاريخها المجيد الذي يجاوز الخمسة قرون، وساكنتها المبدعين في شتى ضروب الثقافة والفنون؛ تقدم نفسها اليوم كإحدى أكثر مدن العالم تألقاً وإلهاماً.
زيارة هذه الحاضرة هو في حد ذاته حلم يتحقق، فهافانا القديمة التي يعود تاريخ إنشائها لعام 1519، تقدم لزوارها إبداعاً حضارياً قلما يُرى في بقية مدن العالم، ويزيدها جمالاً الشواطئ القريبة الأخاذة. إنها رائعة لدرجة الإدمان؛ إذ تظهر للمصطافين وكأن أقدام البشر لم تطأها؛ عذراء وبديعة وخالية من مظاهر التمدن، ويزيدها سحراً أشجار النخيل الاستوائية المتراصة على طول الساحل الخلاب، وحبات جوز الهند المتناثرة هنا وهناك، وزرقة بحر “سانتا ماريا” التي تسلب الألباب.
ولعل أهم ما يميز عمران “هابانا بييخا” عمارتها النيو-كلاسيكية والباروكية الغالبة التي تعود لفترة الاستعمار الإسباني، فأغلب المعالم التاريخية والثقافية التي تزخر بها تعود لهذه الفترة على غرار الساحة الأشهر “بلازا دي آرماس” (ساحة الحرب/ 1520)، وقلعة “كاستيو دي لا ريال فويرزا” (قلعة القوة الملكية/ 1577)، وكاتدرائية “سان كريستوبال” (1777)، وكذا فندق “إنغلاطيرا” (1844) و”حصن لاكابانيا” (1774).
ومن لم يزر “مشرب فلوريديتا” (1817) فكأنما لم يزر كوبا إطلاقا. كيف لا، وقد كان “البار” المفضل للروائي الأمريكي الشهير أرنست همنغواي أثناء إقامته بهافانا من ثلاثينيات وإلى أواخر خمسينيات القرن الماضي، و”هابانا بييخا” هي التي ألهمته كتابة العديد من رواياته وعلى رأسها رائعته “العجوز والبحر” (1952). حتى اليوم، إلى هذا المشرب بالذات يتوافد سنوياً عشرات آلاف السياح من مختلف بلدان العالم؛ لأخذ صور تذكارية مع تمثال همنغواي وتذوق شراب “الموخيتو” الكوبي الأصيل، بالإضافة إلى الرقص البهيج على أنغام “الرومبا” و”التشا تشا تشا”.
وعدا الاستمتاع بهذه المعالم الساحرة، يمكن للزائر أيضاً التنزه بممشى “باسيو دل برادو” (ممشى برادو/ 1772) الذي يتجمع فيه الفنانون المحليون بكل أطيافهم لتقديم أعمالهم للسياح، ولاكتشاف العديد من المباني والأروقة والمتاحف الصغيرة الواقعة بعمق “المدينة القديمة” مثل “كازا آفريكا” (بيت إفريقيا) و”كازا آربي” (البيت العربي) اللذين يحتضنان دورياً معارض فنية من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء والعالم العربي، بالإضافة إلى “مسجد عبد الله” المسجد الوحيد بالجزيرة الكوبية وهو معبد “سياحي” لا يفتح أبوابه إلا لصلاة الجمعة والأعياد.
يمكن للزائر أن يلاحظ بسهولة في تجواله بالمدينة القديمة وجود أطفال المدارس بالعديد من هذه المراكز الثقافية؛ سواء للدراسة رفقة أساتذتهم، أو للزيارة فقط حيث ترتكز السياسة الكوبية في مجال التعليم على أهمية احتكاك هؤلاء الأطفال بتاريخهم وثقافتهم الوطنية من أجل غرس الحس الوطني والفني داخلهم في سن مبكرة.
وما يزيد هذه المدينة جمالاً مكتبات بيع الكتب المتناثرة في كل مكان، والتي تشع بمؤلفاتها وأرشيفها الذي يمجد الثورة الكوبية وأبطالها الخالدين كفيدال كاسترو وتشي غيفارا وخوسي مارتي، وكذا محلات بيع القهوة والسيغار الكوبي المصطفة هنا وهناك، وطاولات بيع الفواكه الاستوائية كالغوايابا والغوانابانا، بالإضافة إلى مواقف سيارات “فورد” و”شيفروليه” القديمة المكشوفة التي تعود للخمسينيات من القرن الماضي والتي تنقل الزوار عبر مختلف أنحاء المدينة.
لقد أسرت هذه الحاضرة ذات الشوارع الملونة والضيقة وذات البنايات التي لا تتعدى غالبا الأربعة طوابق العديد من مشاهير الفنون والآداب في العالم؛ فالإضافة إلى همنغواي وتشي غيفارا وبابلو نيروردا وغابريال غارسيا ماركيز، حل بها أيضاً كل من ستيفن سبيلبيرغ وكيفن كوسنر وداني غلوفر وبيونسي وآخرين.
فيدال كاسترو .. الزعيم المنقذ
يبدو واضحاً للزوار حفاظ “هافانا القديمة” وبشكل كبير على تراثها وحيويتها، رغم أن أقدم مبانيها يعود إلى القرن السادس عشر، فلا عجب أنها تبدو اليوم كمتحف مفتوح تشع بساكنتها المبدعين ومعالمها الآسرة ونظافتها وترتيبها، ونظراً لأهميتها التاريخية والثقافية فقد صنفتها اليونسكو ضمن تراثها العالمي للإنسانية في 1982.
يرجع الفضل في استمرارية هذا الوجود الحضاري لاهتمام الدولة المباشر بها، وتركيزها في هذا الإطار على إشراك السكان المحليين في التنمية الاجتماعية والثقافية؛ ما جعلها تحافظ وبشكل كبير على تناسقها العمراني، ونسيجها الاجتماعي وروحها الثقافية.
تعد اليوم “هابانا بييخا” من الأمثلة الحية عن المدن القديمة التي حافظت بشكل كبير على تراثها، ورغم أن العديد من مبانيها وهي في أغلبها ملك للدولة قد تعرضت مع الوقت للزوال، أو التغيير في شكلها الخارجي وخصوصا في الثمانينيات من القرن الماضي؛ نتيجة الاكتظاظ السكاني الكبير والعوامل الطبيعية كالرطوبة والأعاصير إلا أن اهتمام الدولة المباشر مكن من إنقاذ المدينة والحفاظ عليها.
لقد بدأ هذا الاهتمام الحكومي منذ عام 1967 لما شرع “مكتب مؤرخ مدينة هافانا” -المؤسس في 1938 – بترميمها لتتم دسترة حمايتها في القانون الأساسي لكوبا عام 1976 وصولاً إلى تسجيلها كتراث وطني عام 1978، ولكن كل هذه التشريعات بقيت مجرد حبر على ورق لفقر الجزيرة من الثروات والأموال، ولانشغالها فيما بعد بثورتها لعام 1959 وما أعقبها من حصار أمريكي جائر. بقي الوضع على هذا الحال إلى غاية عام 1993 لما صدر قرار تم بموجبه منح المكتب صلاحيات كبيرة أبرزها: استغلال أملاك وبنايات في إطار نشاطات اقتصادية وسياحية، وفرض ضرائب على التجار ومؤجري الغرف والشقق السياحية لترميم المدينة القديمة. وقد كانت الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها البلاد نتيجة سقوط الاتحاد السوفيتي، وتسارع انهيار المباني القديمة بالمدينة الدافع الأكبر في إصدار هكذا قرار.
لقد صار هذا المكتب انطلاقا من عام 1993 يمول نفسه ذاتياً من خلال عوائد زيارة الأجانب للمتاحف والمراكز الثقافية المختلفة، خصوصاً وأن أغلب هؤلاء السياح الذين يقصدون كوبا يفدون أساساً على “هافانا القديمة”، وقد أسس هذا المكتب مؤسسة باسم “هاباغوانكس” مهمتها الرئيسية جذب هؤلاء السياح إلى المدينة القديمة عن طريق تقديم عروض ثقافية وخدمات سياحية متنوعة بالفنادق والمقاهي والمطاعم والأسواق التي تملكها.
حالياً يحقق هذا المكتب عوائد بملايين الدولارات نصفها تقريباً تخصص للترميم، والباقي لتنشيط التعليم والصحة والحياة الثقافية والاجتماعية، كما يصب جزء منها في صندوق الدولة. إضافة إلى أرباحه هذه، فقد عمل أيضاً هذا المكتب على توظيف ساكنة المكان بمختلف المراكز الإدارية والسياحية وغيرها، وكذا تشجيع مبادراتهم الاجتماعية والثقافية والسياحية والاقتصادية.
يقول يوسيفيو ليال سبنغلر وهو المسؤول الأول بالمكتب عن ترميم “هافانا القديمة” وأحد أبرز مؤرخيها في إحدى تصريحاته أن الفضل في إعادة الاعتبار لـها يرجع لقرار سياسي اتخذه فيدال كاسترو بعيد زيارة له لمدينة “قرطاجنة” الكولومبية، حيث أعجب بها أيما إعجاب فأمر بالحفاظ على “هافانا القديمة” بذات الشكل.
اليوم، تتربع “هابانا بييخا” على مساحة مائتي هكتار، وبها أكثر من ثلاثة آلاف بناية أغلبها في حالة جيدة، ويقطنها حوالي مائة ألف نسمة من بين حوالي المليونين هو إجمالي سكان العاصمة ككل. رغم الحصار الأمريكي الطويل على الجزيرة، لا تزال هذه المدينة القديمة وجهة كبرى للسياحة الدولية في الكاريبي؛ إذ تجذب لوحدها حوالي المليوني سائح سنوياً من أصل أكثر من أربعة ملايين يزورون البلاد أغلبهم من الولايات المتحدة وأوروبا، وتمثل هذه السياحة ثاني أهم مداخيل البلاد كما تساهم في خلق نصف مليون منصب شغل.