أسوار

0 697

اسلام الحادي – مصر

“أو تظنني سعيداً يا أبي؟

‏أبدا

‏لقد حاولتُ مراراً وتكراراً

‏أن أنفض هذا القلم من الحبر

‏كما يُنفض الخنجر من الدم

‏وأرحل عن هذه المدينة

ولو على صهوة جدار”

(محمد الماغوط )

كل ليلة يصدر صوتاً أشبه بسعال مكتوم يعلن به قدومه، تهتز الصورة، يطل برأس دون ملامح، يظهر وجهه مبتسمًا، ثم يبدأ في الظهور شيئًا فشيئًا حتى يخرج بكامل هيئته. كنت أعلم بميعاد خروجه، ولكنّي كنت أتظاهر بالنوم، حتى يأتي ويربت على كتفي كي استيقظ؛ نتحدث ونثرثر كثيرًا، ثم حين يخترق شعاع الضوء الأبيض النافذة يدخل مرة أخرى إلى الصورة. غاب فترة، ولم يأتِ، وإلى الآن، لا أعرف السبب. يدق الهاتف، ولا أدري أيضًا علاقة أن يدق الهاتف بدخول عمتي إلى الحجرة، وقولها: “أجيبي الهاتف يا بنتي؛ هو مريض اعملي معروف”. اضغط زر الإغلاق بعصبية، وانتظر قدومه من حيث يأتي كل ليلة.

تركتني عمتي، وجاء الليل. أسمع طرقات متوترة على النافذة الزجاجية أعتقد أنني لازلت داخل تفاصيل ذلك الحلم المرعب، يزداد الطرق يتحول شيئًا فشيئً إلى طرقات عنيفة متتالية. أنظر خلسة من تحت الغطاء لأجد وجهه خارج النافذة يلوح لي بيده، وأشعر أن شيئًا ما يعري ظهري، وأشعر بلسعات الهواء البارد تخترقني من أسفل. أقوم فزعة أسير وأتخبط في الظلام؛ أسمع وأرى دموع أمي على وسادتها المختلطة ببعض الكحل؛ يلوح مرة أخرى، ويمضي، ثم تتكرر الرؤية وتزداد سرعة النقرات وشدتها، فأعدو إلى الخارج لأنام في حضن أمي.

  في الصباح، سمعت وأنا أسير ملتصقة بأمي تلك العجوز التي تجلس على المصطبة بجوار بيتنا، كانت تقول لصاحبتها، في الركن المقابل، بعدما شيعتنا بنظراتها الحادة “الراجل أمه قعيدة ولم تتحمل العيش معه وفي آخر شجار بينهم قال لها: خذي ما تشائين حتى المسمار داخل الحائط و..”، صمتت حين نظرت إليها، وأشارت إلى صاحبتها إشارات فهمت منها أنها ستكمل لها في الغد.

          ليلتها، كنت أتأمل تلك الصور؛ واحدة للتقديم بالمدرسة، وأخرى ليس لها علاقة بالمدرسة. صورة رأتها أمي وفرحت وغنت “حبيبة أمها”، وأخرى خبأتها طويلًا هي وسلسلة يتدلى منها أول حروف اسمي. الصور زاهية الألوان وفيها كنتَ تحتضنني بقوة. لم أشعر بالخوف، ولكنني كنت أنظر بترقب، أما أنت فنظراتك كانت مشبعة بالأسى والحزن. فجأة، خرجتَ من إطارها وحاولتَ الحديث معي؛ هيا لنلعب لعبة مسلية أنسى أنها صورة وأنت تنسي أنني لست بجوارك.

دعني أسألك، وأرجوك لا تقل عني ثرثارة. لماذا تبكي أمي ليلًا وتضع خدها على سور الشرفة؟ حينها أرى عمود الإنارة أمام منزلنا يتأرجح، والضوء يخفت شيئًا فشيئًا حتى يتلاشي وتظلم الدنيا. أمضي نحوها؛ أقبّل يدها ورأسها فيزداد نشيجها المتقطع، وأجذبها ناحيتي برفق وأحاول أن أربت على رأسها المتعب حتى تنام.

أتعلم؛ بالأمس، لم أجد الأطفال لألعب معهم. أخذت عروستي بشعرها المنكوش وذراعها الخارج من ملابسها الممزقة. نظرت من فتحة سور النادي المقابل لبيت جدي. وجدت الصبية يلعبون الكرة، وأنا بنت لا استطيع أن ألعب معهم. وجدت فتحات داخل السور تسمح لي بتسلقه تسلقت السور، ومشيت عليه، وظللت هكذا “رايحة جاية”. الصبيان داخل النادي قالوا لي انزلي يا “عبيطة”؛ لم أستمع لهم؛ كرروا النداء مرات كثيرة، ولكنني كنت مستمتعة جدًا بما أفعل؛ أن أبقي قدمي على حافة السور دون أن تنزلق. وجدتني أدور في دوائر سوداء مرسوم بداخلها بعض الوجوه. مع الدوران، رأيت وجه السيدة التي تجلس أمام البيت، ووجه صاحبتها؛ أغمض عيني، وأحاول مسح الوجوه التي لا أريد أن تظهر فلا استطيع. أمي لا تزال تردد “أتركي الأنوار موقدة، أغسلي الأطباق، كفاك شرب قهوة، القراءة ستذهب عقلك… “

وفجأة، وأنا على تلك الحالة، ركل أحدهم الكرة بعنف ناحيتي فوقعت. كان عامل المسجد يجلس تحت السور؛ جرى بسرعة ناحيتي، وحملني ونادى على أمي كي تأخذني. كانت رائحته كريهة، ولكنها كانت تشبه رائحتك وأنت تجلسني على رجلك، وتنفث دخان سجائرك.

نظرَتَ إليّ نظرة حادة وقالت: “لا تفعلي ذلك مرة أخرى”.

أتذكر، حين أتيت تلك الليلة، كان المصباح الأصفر يرتعش ويتحرك بفعل الهواء القادم من النافذة، وهذا يخيفني جدًا. أترى ذلك العصفور تركه أقرانه وراح يزقزق منفردًا؛ بومة تطل برأسها الذي يتحرك في جميع الاتجاهات تفتك به. أسألك لماذا؟ ترد لأنه عصفور والبومة تأكل العصفور. أرد بعصبية: هل ذنبه أنه عصفور؟ ترد بهدوء وثقة: “وهل ذنبها أنها تظل جائعة؟”. وهل ذنب العصفور أنه خلق ضعيفاً لا يستطيع الدفاع عن نفسه؟ تجيب: “ألم تدرسي ما يسمونه التوازن البيئي؟” صوتي يزداد حدة: “نعم درسته ولكنه قانون غير عادل”. وجدتني أشخص ببصري ناحية الشجرة مرة أخرى. وجدت العصفور وقد كبر جناحاه واستطالت أظافره وأصبح له أنياب ينهش بهم كل من يحاول الاقتراب منه.

– أرني أصابعك ذات الأظافر المشوهة.

– ولم؟

– لأنني نسيت شكلهم حينما كنت أعد عليهم في مسائل الجمع والطرح.

يستمر الحوار وتقاطعنا دقات الهاتف. أنظر في الظلام لأجد رقم هاتفك الخلوي. اضغط على زر الإغلاق بقوة. أقول بحدة: “ألم نتفق أننا ننسى”. دعنا نكمل ما بدأناه في لعبتنا المسلية..

قلت له سأحكي لك قصة الصورة لأنك سألتني أكثر من مرة.

“يومها دخلت عمتي تحضنني بقوة (لأنها بغض النظر عن أي شئ آخر كانت صديقة أمي). تلبسني فستاني الأحمر، وتضع في شعري المنسدل وردة حمراء. هيا لكي نذهب لنأخذ صورة. ترفض أمي بشدة خروجي من البيت. تستجديها لأخرج معها؛ توافق على مضض. أمسكت عمتي بيد وضغطت عليها بقوة. وقفنا أمام أستوديو التصوير برهة. رأيتك قادمًا نحوي تهرول؛ خبأت وجهي في ملابس عمتي (لا أعرف لماذا شعرت بالخوف منك ؟!) احتضنتني وبكيتَ طويلًا. كانت يدك خشنة، ولكنني لم أرها قبل ذلك، تعبث بمفتاح الباب الخارجي، ولم أشعر بها تربت على كتفي. نظرتَ إلى عمتي نظرة رضا. دمعت عينا عمتي وسحبتني من يدي، وأنا في ذهول تام لننسحب من المشهد ونعود إلى البيت، جريت خلفي ملهوفاً وأعطيتني قطعتين من “غزل البنات” وقلت بصوت أشبه بالبكاء: “لعل غزل البنات يشبه لقاءنا فكلاهما هش وتنفذ حلاوته سريعا”.

لا يزال الهاتف يدق بإصرار، يريد أن أجيبه. تدخل عمتي أيضًا تستجديني كما في سابق عهدها. وهو لا يزال يختفي ويظهر؛ مرة على الشجرة بجانب العصفور والبومة؛ ومرة على السور الذي تسلقته؛ ومرة أخرى على المصطبة بجوار السيدة العجوز؛ ومرات كثيرة يتشكل وجهه مع الوجوه والدوائر التي رأيتها وارتسمت أمامي. كل هذا لم يثر دهشتي، ولكنني تعجبت لأن هذه المرة بالذات لم يدخل مرة أخرى إلى الصورة، بعد طلوع النهار؛ فكنت مستمتعة بحديثه وهو لم يكن يريد أن ينسى أنه ليس بجانبي، وتعجبت أكثر لأن الصورة حين تأملتها آخر مرة لم أر فيها سوى أشباح؛ كأنها حرقت في معمل التحميض، عندها أجابت عمتي على الهاتف وفجأة ألقته من يدها وصرخت “أبوكِ ماااااات”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.