رصيف الحكايات

0 831

محمد سعيد احجيوج– المغرب

العاشرة ليلًا. العاشرة ليلًا وقشعريرة برد. العاشرة ليلًا، قشعريرة برد وصوت فيروز. العاشرة ليلا. قشعريرة برد. صوت فيروز القادم من مذياع متهالك من مقهى المحطة. محطة القطار وشهر ديسمبر. الأمطار. البرد. الوحدة.

مرّ قطار العاشرة بعد أن لفظ وجوهًا شاحبة غادرت الرصيف مهرولة كأنما الموت يطاردها، والتهم وجوهًا سَئِمة كأن الحزن ولد معها.

لن يغادر قطاري قبل الثانية عشرة. أكره الانتظار، لكني هنا سأنتظر ساعتين. ربما لأني أكره الانتظار أحضر المحطة دوما قبل ساعات من موعد السفر. أن أنتظر على رصيف بارد خير من أن أنتظر على مرتبة وثيرة قبالة تلفاز يتقيأ أخبار الكوارث من كل مكان.

صوت فيروز المشحون بالشجن يسري في جسدي بخدر عجيب، ويدفعني للارتخاء في مكاني وإغماض عيني، مستسلمًا لفيض الأفكار، كاتبًا في ذهني قصة قصيرة تدور على رصيف محطة قطار عن طفل تزل قدمه فيسقط، مع رفيقه، في غفلة من الآخرين ليصير وجبة لعجلات القطار الحديدية.

الحادية عشرة ليلًا، وجفون مثقلة بالنوم.

أنتبه من تدفق أفكاري على لغط المسافرين المراوحين ذات أمكنتهم. برودة المقعد الحجري بدأت توخز عظامي، وصوت الرعد افتتح معزوفة السماء. المحطة بدأت تكتظ والمقهى غصت عن كاملها، وغاب صوت فيروز ونقرات الأمطار بين ضجيج المسافرين. أتأمل الوجوه بسحناتها المتشابهة؛ الغم مسيطر على الكل، وإن كانت الضحكات لا تتوقف.

أنهض من مكاني خارجًا إلى الرصيف أتنسم شيئًا من طراوة الأمطار الندية. يبلل الرذاذ وجهي فيتملكني شعور بنشوة ممزوجة بخليط من الارتياح والحزن. أتذكر قصيدة السياب أنشودة المطر. دائمًا، كلما هطل المطر تغزوني مشاهد الأنشودة؛ الجوع والفقر والحرمان والظلم. أتذكر أيضًا شمعون دنكور، من رواية أحجية إدمون عمران المالح، للكاتب محمد سعيد احجيوج، حين ينشد القصيدة بكل جوارحه لصديقه عَمران المالح، كلما هطل عليهما مطر باريس: يبدأ شمعون أبيات القصيدة ويصاحبها بحركات جسده الحزينة التي تكاد تتحول إلى رقصة باذخة الحزن. يصير خفيفًا كأنه يطفو على الهواء وهو يردد، “عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر، أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.” ولا يملك صديقه عمران أن يمنع عينيه من أن تدمعا حين يصل شمعون إلى “كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء، دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف، والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛ فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء”، ويرتجف جسد عمران ولا يتوقف عن الارتعاش حين يضرب شمعون الأرض بقوة بقدمه وهو يردد لازمة القصيدة “مطر، مطر، مطر.” ويبقى السؤال المفجع معلقًا في الهواء “أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟” الذي يثير في نفس عمران، كما شمعون، كل ذكريات الرحيل والمنفى، “وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ ثم اعتللنا -خوف أن نلام- بالمطر… مطر… مطر.”

على الرصيف، ذي الأرضية الصلبة الباردة والمبتلة، تتكوم أجساد سكنها الحرمان والتشرد. أجساد في براءة العصافير نخرها البرد والفقر. أجساد تداخلت ببعضها تتكوم على نفسها تستدفئ من حرارة التشرد الذي استوطنها.

صافرة القطار قادمة من بعيد تحملها الرياح الباردة معلنة عن قدومه.

شرطي من رجال أمن المحطة يخرج إلى الرصيف يتمطى، ويحرك عضلات قدميه المتيبستين من كثرة الجلوس. يرى الأجساد المكومة على دواخلها فتتملكه سادية الرفس والركل.

المهانة والقهر يتملكان الأجساد الهزيلة فينطلق اللسان بما حفظ من عبارات السب والشتم. الغضب يبسط نفوذه على الشرطي، وتبدأ المطاردات؛ أطفال يجرون على الرصيف المبتل الزلق، وشرطي يلاحقهم بأعصاب منفلتة.

قدم طفل تنزلق، ويد تمتد للتعلق بملابس رفيق، وينزلقان معًا إلى أسفل الرصيف.

لا أحد، أثناء اهتمامه بالمطاردة، انتبه لصوت القطار الذي اقترب كثيرًا، الذي اقترب أكثر مما يجب. لا أحد انتبه قبل أن يرتفع صوت المكابح المستميتة لإيقاف عجلات القطار. لا أحد انتبه قبل أن يرى القطار بعجلاته الحديدية يدهس جسدين فتيين لم ينعما يومًا بالحياة.

ذهول يطبق على الكل. مقل تتلألأ دمعًا. أفواه مفتوحة دهشة. وجوه حيرى. أجساد ترتعش رعبًا. وساعة المحطة أعلنت عن منتصف الليل.

الثانية عشرة ليلًا، والسكون يعم كل المحطة. فتحت عيني ونهضت مسرعًا للحاق بقطاري. وخلفي عاد صوت فيروز يسمع من جديد، وواصلت الساعة دقاتها الاثنتي عشرة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.