في سيرة الرجل الداكن*

0 439

عبود الجابري – العراق

لست مديناً للغابة بشيء

مادام أسلافي لم يورثوني فأسًا

ولي في ذمّتها

حطبٌ تنازلت عنه

عندما كانت قامتي تطاول أشجارها

لي عند أسوارها سهامٌ

ماتت قبل ان تصيب قلوب الضواري

ولي في قلبها غزالةٌ تفرُّ من اسمي

حين تردّده الطيور التي أطعمتُها بيدي

لي عند حرّاسها معاطف كثيرة

منحتُها لأسودٍ صادفتني

وغضت البصر عنّي من وهنٍ

كما لو أنّا تدلُّ ضحاياها

على طريق النجاة

…..

قد يحدث لك أن ترى الحياة في المرآة الجانبية

أو عبر الزجاج الخلفي،

ربّما تكون قد فركت عينيك جيدًا

وحظيتَ بلمحةٍ قبل أن يعاودك العمى،

كلّ شيء يلهو بخطاك

بينما السماء تمطر طيناً أزرق

شبيهاً بدم العناكب

بدا لك أن الغيوم تمارس الخيانة

مع رسّامٍ يكره صفو الماء في اللوحة

…..

ما تحبّه عيناك ، ليس بالضرورةِ أن يكون لامعاً كما لو أنّه ينتظرك في الشمس، فنحن نحبُّ الأشياء الداكنة كذلك، الأشياء التي تنفحنا بالضوء عند حاجتنا إليه، اللّمعان يسرقُنا من التراب ويمضي بنا صوب المعدن؛ المعدن الذي يتوجّب عليه أن يبالغ في نعومته كي يبدو صقيلًا، أعرف رجلًا كان يحبُّ الفواختَ ويستريح تحتَ أجنحتها حين تنتابهُ متلازمةُ الهديل ، كان يجرّب صوته الأجش في مراودة النوافذ فتنكسر لأغانيه فناجين القهوة، وينتحبُ زجاج النوافذ، كان صوته قبيحًا، لكنه عامرٌ بحنين لا يدركه سوى الفواخت، الفواخت بلونها الرمادي المكحّل بالنيلي، بمناقيرها الخجولة، ما إن تشعر بعجزه عن الغناء حتى تنبري فتسرح له صوف مواويله، وتغزل منه ملاءاتٍ من الشّجن :

الجسد ياصاح من زود العنا ناحلي

وحتى الحمام المطوّق عالغصن ناح لي

ناعور صرت بزماني،،

ويبكي كما لو أنّه يخبئ فواخت العالم كلّه في إهابه.

…..

أعرفُ كذلك رجلًا مفدوحًا، يحبّ التراب، يمرّغُ جسده وروحه في قلبه، ويعانق العشب بأجفانِه، يحبّ تراب الحديقة؛ تراب البلد الهارب، وتراب المدن التي تدفنُه في حُفرِها، وكأي قصّيص أثَر يحبّ آثار خطوات امرأة بعينها مطبوعةً على التراب، وحين يعثر على ما يلمع في روح التراب يعيدُه إليه كي لا يمسح عنه فضيلةَ لونه الداكن، حتّى أنّه حاول أن يصير ترابًا، فألقى بنفسه تحت عجلات السيارات أكثر من مرة، تنكّر على هيأة تمثال عسى أن يتهشّم حين يسقط من أماكن عالية يرتادها في منامه، لم يفكّر يومًا أن ينفضَ بنطاله من أثرٍ، ولم يتخذ التراب مدفنًا لمن يحب من الموتى، مفدوحاً كانَ، يسيل دمه بغزارة فيزنُه بمقدار وزنه بتراب يسدّ به فمَ شريانه وينتظر أن يتوقف النزف، لكنه ما لبثَ أن مات، اصابتْهُ دمعةٌ من ترابٍ ذليل .

…..

النصال لامعة

لكنّها تثرثر كثيراً في عتمة الدم

فلا تسنّو حجراً لتغيروا من عاداته

الحجرُ داكن

غير أ ن قلبه أبيض

فلا تشبهوا قلوب أحبائكم بالحجر.

 

*  من نصوص مجموعة (أثر من ذيل حصان) الصادرة للشاعر، هذا الأسبوع، عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.