نزهةٌ صباحية

0 435

 

بريان برينان-إيرلندا

ترجمة: فهيمة جعفر

 

إثرَ خروجي باكراً ذاتَ صباح، – وهذا بحدِّ ذاته مثيرٌ للدهشة، فغالباً ما أنامُ حتّى تتجاوزَ الظهيرة، ممضياً الجزءَ الأشدَّ مشقّةً منَ اليومِ في السرير – أمرُّ بامرأةٍ على الرصيف. تهتفُ بي: “ساعدني أرجوك، لقد فقدتُ قدميّ.” أنظرُ لها، ترتدي سترةً زرقاءَ وَتقبضُ على حقيبةٍ من جلدٍ مدبوغ. وَهي صادقة، فحيثُ أتوقّعُ رؤيةَ خفيّن أسودين أو زوجَ أحذيةٍ للعمل، لا أرى شيئاً. لا أقدام. ألتفتُ آنئذٍ فقط لوجهها المتسخِ وَشعرها الأشعث. لقد أمضت الليل بأكمله خارجَ المنزل، بل ربما طيلة نهاية الأسبوع؛ فاليوم اثنين.

” هل تتفضّلين بأخذِ قدميّ ؟” يا له من عرضٍ سهل. فطولُ المرأةِ لا يمكن أن يتجاوزَ خمسةَ أقدامٍ، في حينِ أن قدميَّ – على أيةِ حالٍ – قدما رجلٍ طوله ستة أقدام. ما من امرأةٍ ستقبل بهما.

يأتي جوابها “نعم” . وَمندهشاً لقبولها، فضلاً عن وضعها بلا قدمين، أعطيتها إياهما. لوحَّت لي شاكرةً وَمضت تدقُّ الرصيفَ بقدميَ الضخمة.

لنبدأ بالأهم، بتُّ أقصرَ بما لا يقل عن ثلاثةِ إنشات، وَساقا البنطالِ تهفهفان على طرفِ الرصيف، وَالأسوأ من هذا كله أني فقدتُ توازني ! أنا رجلٌ رياضيٌّ وَبنيتي جيّدة، لكنّي عاجزٌ بلا قدمين. الناس يهرعون إلى الجانبِ الآخر من الشارعِ حالَ رؤيتي قادِماً، وَبعضُ صبيةٍ يهتفون “مخمور! ” في طريقهم إلى المدرسة.

أجلسُ على عتبةٍ لأستريحِ – السيرُ دونَ قدمين منهك – يعبرُ بي بضعة أشخاص. ما نفعُ سؤالهم إعطائي قَدَماً ؟ ستنتهي لعبةُ الأخذِ وَالردِّ هذه بشخصٍ ما، في مكانٍ ما، دونَ شيءٍ ما. وَإذ ذاكَ أنهضُ وَأقومُ بالأمر الوحيدِ الممكن: أتخيّلُ قدماً. أبدأُ بالمشي، تتخبّطُ القدم -مطقطقةً الرصيف – في الفراغِ أسفل الساقين.

بعدَ مسيرةِ جادّتين قطعتهما بلا توقف، منحدراً بصمتٍ دونَ أن يلحظَ أحد، فيما عدا كوني لا أنتعلُ حذاءً. أقفُ أمامَ محلِّ أحذيةٍ صغير، وَحين يسألني البائعُ عن مقاسِ حذائي، لا أعرف. بعدَ أخذِ قياسهما – 10 د، مقاسٌ أصغرُ من قدميَّ السابقتين؛ عليَّ شراء حذاءٍ جديد – أرمق قدميَّ الجديدتين. أصبحتا مقوّستين – لا أقدامَ مسطحة. وَأصابعُ قدميَّ – التي كانت بطولِ أصابعِ اليدِ تقريباً – باتت قصيرةً الآن، وَالندبةُ التي كانت بها منذُ أن دستُ على مسحاةٍ في سن السابعة قد اختفت الآن. صارت لي قدمٌ جديدة.

وَإذ أهم بالانعطافِ متجهاً لمنزلي، يندفعُ نحوي رجل. لا يملك كفين. لا أدري إن لاحظ عدم امتلاكي قدمين أم لا – ألأننا نبحثُ عمّا نفتقرُ إليه عندَ من هوَ أدنى، مؤمنين بمنطقِ “إن لم يكن يملك قدماً، فما نفعُ يديه؟ ” – غمرهُ حزنٌ إذ حاولَ القبضَ عليَّ بذراعٍ تنقصها كف، نشجَ، ثمَّ دفعني بعيداً وَأخذ يلقي بلعناته في وجهي. بالطبعِ أعطيته كفيّ – كانتا قبيحتين، بأصابعَ غليظة وَراحتين خطوطهما غريبة. وَلطالما حلمتُ بكفينِ من برونزٍ أو مرمر. يغادرني سعيداً، متشبّثاً بكفٍّ غريبةٍ عنه تماماً.

هكذا يمضي الصباحُ، حتى تأتيني امرأةٌ لا يصدر عنها أدنى صوت- أجهلُ تماماً لأي علّةٍ أرادت رأسي. فلها قوامٌ جميلٌ، ساقانِ طويلتان، أصابعُ دقيقة، نهدانِ صغيران، وَعنقٌ ينتهي الآن برأسي: ملتحٍ، أصلعٍ، تحفره  تجاعيدُ خلّفها جهدُ مخيلةٍ خصبة.

ألتفتُ لنفسي، نظرة خاطفة قبلَ أن تصبحَ عيناي عينيها. بمَ كنتُ أفكّر؟! أنا الآن أشبه بخيالِ مآتةٍ مثاليّ. ثمُّ أنظرُ لها بعينيَّ الجديدتين – أشدِّ اخضراراً من بحرِ الشمال البارد – وَابتسامتها ، التي لم تلائمني قط ، أيّما مرآةٍ عكستها، كانت تزدادُ جمالاً.

بريان بيرنان
كاتبٌ وَصحفي وَإذاعي كنديٌّ من أصلٍ إيرلندي. نشرَ عدداً من الأعمال تتناول التاريخ الاجتماعي لكندا الغربية وَحياة أشخاصها.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.