سعيد الراشدي – عُمان
وصل محاد وهو رجل مسنّ، عمره سبعون سنة، ويزيد، ولكنه لا يزال يتمتع بصحة جيدة ونشط في تحركاته، معتدل الطول، شعر رأسه كث منسدل قليل بشكل أفقي تحت عمامته العسكرية، يعمل في قوات الفرق الوطنية بالجيش السلطاني العماني، يرتدي قميصا أسود وإزارا أخضر داكنا زاهيا ببعض الألوان، وهو متمنطق بالخنجر العماني بنقوشه الفضية الزاهية المصنوعة بمهارة وحرفية فنية متقنة. كان قادما من الجبل إلى مدينة صلالة حاضرة ظفار. وبمجرّد وصوله ألقى التحية على مجموعة من الأشخاص، يعرف بعضهم، جالسين في إحدى مطاعم السوق المركزي الواقع في شارع 23 يوليو، يقضون معظم وقت فراغهم هنالك. دعوه إلى مشاركتهم الجلسة، وهم يجلسون على شكل دائري في ظل شجرة كبيرة يفترشون بساطا كبيرا يتسع لعدد من الأشخاص. وحين جلس بادره أحد الحاضرين، واسمه على، وهو أكبر الجالسين سنّا، ويبدو أنه يحظى بتقدير الحاضرين بالقول:
– – “خبور”(1).
فرد محاد:
– “خبور خير”(2).
كان محاد متوترا وقلقا، ويتحدث بعصبية وبكلمات سريعة، يشوبها بعض العتاب وذكريات الماضي، متذمرا من غالبية شباب الوقت الحاضر في المحافظة، واصفا إيّاهم بأنهم يختلقون المشاكل على أتفه الأسباب، مما ينعكس ذلك سلبيا على أفراد قبائلهم والمجتمع بشكل عام، مستطردا في حديثه أنهم يرسخون الظواهر السلبية البالية في المجتمع، تلك العادات التّي تقضي على التعاون بين أفراده وتنشر الحقد والبغضاء، مستعيد ذكريات الماضي، ومشيدا بمدى التعايش السلمي بين القبائل في الأيام الغابرة. استفز حديث محاد وأسلوبه الهجومي معظم الحاضرين وأثار دهشتهم، وتسابق الكثير منهم على طرح أسئلتهم عليه واعتراضاتهم على ما قاله. كيف؟ وماذا حصل؟ وهل ما قلته غير مقبول؟ , وفجأة أصبح الشباب على قدر كبير من الثقافة والوعي. وردّ محاد عليهم مبررا ما قاله، وازداد النقاش بين معظم الجالسين وأصبح أكثر حدة، متحولا إلى جدال عقيم، واختلطت الآراء ببعضها، فكل واحد منهم مصر أن كلامه هو الصواب.
في هذه اللحظة، رفع الشيخ علي يده اليمنى معترضا على أسلوب النقاش الذي بدأ يتقاطع مع الذوق ويبعث في النفس الاشمئزاز والنفور، طالبا من الجميع الهدوء والصمت حتى ينهي كلامه الذي يريد أن يقوله، سكت الجميع وأنظارهم موجهة إلى علي الذي قال:
-“أخبرني، ما هي المشكلة التي دفعتك إلى هذا الكلام؟ لابد أنها مشكلة كبيرة”.
فقال محاد:
-“نعم، يا شيخ علي، سوف أحكي لكم القصة كاملة، ولكنني في البداية أود أن أوضح لكم خطورة هؤلاء الناس الذين يحملون أفكار مضرة ومدمرة ومنها الخلافات على الأراضي. إنّهم يغتالوننا كلّ يوم. وهذا ما أثار شعوري صراحة، وظلت تزداد خطورتها سنويا على المجتمع لنشر الحقد والبغضاء، وتؤدي إلى عدم التعاون والتكاتف بين القبائل، ولا يزال يرسخها بعض الناس ويحافظون على استمرارها، وهم يدركون أن الاعتراض على المراعي والمياه وحيازة الأراضي والادعاء بملكيتها يتعارض مع القوانين والأعراف، بل أكذوبة يصدقها الأغبياء ويؤمن بها الخبثاء، الذين يختلقون المشاكل بين القبائل”.
فقال الشيخ علي:
-“كلامك صحيح مائة بالمائة، ولكن هؤلاء بشر. ولا حد يستطيع السيطرة عليهم، وأنا أتفق معك أنه لا يحق لأحد أيّا كان الاعتراض على المراعي، في ظل القانون وهيبة الدولة، والكل يعلم بأن الأرض ليست ملكا لأحد، من حق الجميع أن يستفيد منها. وأنا مستغرب كيف يجرؤ هؤلاء الناس على فعل ذلك، وهم يعيشون مع بعض من آلاف السنين، ولم يدّع أحدهم ملكيتها دون الآخر، ولكن ليس لدينا حيلة لمنع ذلك الوهم”.
بدأ محاد يروي قصته بالتفصيل، وبأسلوب أكثر رقيا، وعبارات هادئة ومتوازنة، بعد أن هدأت أعصابه: “حصل عراك في صباح يوم أمس بين بعض رعاة الإبل في إحدى الأودية على المراعي، أصيب فيه عدد من الأشخاص، الذّين كان كلّ طرف منهم يدّعي أنّ ذلك الوادي ملك له”. وسكت محاد قليلا، ثمّ أكمل قوله: “حسن شاب في الثلاثين من عمره، طويل القامة، مفتول العضلات، يتمتع بقوة بدنية وجرأة للقيام بالأعمال التي لا يتمكن أي شخص من القيام بها، ومعه شقيقاه، وهما أصغر منه سنّا، غانم ومسلم. وكانوا يسوقون إبلهم من أسفل الوادي إلى أعلاه، ويقصدون مكانا تكثر فيه المراعي، والطبيعة الخلابة ذات المناظر الجميلة مع بداية موسم الصرب (3) وتزامن وصول مجموعة حسن إلى المكان الذي كانوا متجهين إليه مع وجود مجموعة من الشباب يمتلكون قطيعا من الإبل يرعونها في ذلك المكان، أكبرهم فهد وشقيقاه أحمد وناجي وابنا عمهم راجح وفايز. أراد حسن وإخوانه التوغل في الوادي أكثر، فقام فهد وجماعته بمنعهم من المرور في الوادي، بحجة أن هذه المنطقة ملك لهم منذ قديم الزمان، الأمر الذي لم يرق للطرف الثاني. كان الحديث بين حسن وفهد يحتدّ ويشتدّ، وعلا صوتاهما، وازداد الموقف سخونة. فقال حسن:
– “ليس من حقكمأن تمنعونا من الرعي في هذا الوادي. هذه أرض الجميع، والمراعي كثيرة الحمد الله.”
فردّ عليه فهد:
– “إذاكنت تتكلم عن الحق، أنت تعرف أن هذا الوادي يسكنه أجدادنا وآباؤنا، من زمان، ولا يوجد لك حقوق عندنا”.
فقال حسن:
– “هل عندك صك على ذلك من بعد جدودك؟”.
فقال فهد:
– إن كان عندي صكّ، أولا، فلن تمرّ في الوادي”.
فردّ حسن:
– “سوف نتوغل في الوادي، ولن نطلب منك رخصة، فيأرض الله الواسعة.”
وتوجه حسن وشقيقاه إلى قطيعهم، ودفعوا به إلى أعلى الوادي، بينما قام فهد وجماعته بإغلاق الوادي، الذي لا يزيد عرضه على مائة متر وإيقاف تقدم الإبل المندفعة إلى الأمام. واشتبك الجميع مع بعض بالعصي والحجارة، ومن حسن الحظ أنهم لا يمتلكون بنادق أو خناجر قد تؤدي إلى خسائر في الأرواح، وبينما كان الاشتباك مستمرا بين الطرفين، وصلت مجموعة من الأشخاص من قبيلة أخرى، ففضّت ذلك الاشتباك، الذي نجم عنه إصابة شقيقي حسن بإصابات مختلفة غير بليغة، وبالمقابل أصيب فهد وجماعته كلهم بإصابات مختلفة، مما أثار نزعة الانتقام لدى عشيرتهم، وبالمقابل لم يصب حسن بسوء رغم عنف هجومهم عليه. وتم إسعاف المصابين في المستشفى، وبقي حسن في الوادي مع قطيعه، وانضم إليه عدد من جماعته المرابطين عند ذلك القطيع. وانتشر الخبر عبر التواصل الاجتماعي لدى شيوخ وأفراد العشيرتين، وهب الجميع إلى تحضير ما لديهم من أسلحة، مستقلين سياراتهم ذات الدفع الرباعي، وتوجّهوا إلى مكان الحادث وكل يحشد أنصاره، استعدادا للمواجهة.
يتحكم حسن وعشيرته في أعلى الوادي، بينما عشيرة فهد تتواجد في أسفل الوادي. بدأت عشيرة فهد بالهجوم على حسن وجماعته الذين دافعوا عن أنفسهم بشراسة، رغم أنهم أقل عددا، ولم يستخدم أحد في هذا الاشتباك أعيرة نارية، بل استخدمت العصي والحجارة والأدوات الحادة، والتصادم بالسيارات، وتحول المشهد في الوادي الضيق إلى ساحة معركة وفوضى عارمة وصخب شديد، اختلطت فيه أصوات الصياح وارتطام السيارات ببعضها. وكان بعض المحايدين يحاولون إيقاف هذا العراك غير المبرر إلا أنهم فشلوا في ذلك. ولحسن الحظّ وصلت الشرطة بسرعة إلى مكان الاشتباك، وأوقفته، وتمّ القبض على خمسين شخصا تقريبا من المشاركين في الاشتباك من الطرفين، وتمّ إيداعهم في السجن، ونقل المصابون إلى المستشفى وعددهم خمسة وثلاثون شخص، وانتشر الخبر بين السكان. وعلى إثر ذلك قامت مجموعة من شيوخ وأعيان القبائل الأخرى في المحافظة، بالتدخل بين الطرفين وعقد صلح لمدة شهر، للتخفيف من حدّة القوة لكيلا تعاود الاشتعال. ومع استمرار بعض المساعي الخيرة، من قبل أولئك الشيوخ بدأت الأمور تستقر، وتأخذ مسارها خلال فترة الصلح”.
واختتم محاد قصته بسؤال للحاضرين في الجلسة:
– “ألا ترون أنني على حق؟ عندما كنت غاضبا من هؤلاء الناس الذين يحاولون ترسيخ هذه الظاهرة. أنتم ترون نتائجها. أصيب حوالي اثنين وأربعين شخصا، وسجن حوالي خمسين، وما سيترتب عليه من إجراءات لمعاقبة المشاركين في الاشتباك، سيكون ثقيلا، مثل الطرد من العمل وتخفيض الرتب والدرجات الوظيفية”.
سكت الجميع لحظات، ثم قال أحد الحاضرين:
– “فعلاأن مثل هذه الظواهر التّي تضرّ بالنّسيج الاجتماعي وتنشر بين أفراده البغضاء والتعصّب والحيازة دون حق، تخلق الحساسيات، وتقضي على الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها أجدادنا قديما. لقد كانوا مثالا يحتذى به في التعاون والتكافل الاجتماعي في السراء والضّراء”.
(1) وهي عادة سائدة بين سكان الجبال يقولها صاحب المكان لضيوفه، لتقصّي الأخبار، تعني باللهجة الجبالية أنهم يطلبون منه الإدلاء بما لديه من أخبار جديدة على الساحة
(2) رد على كلمة خبور وتعني أخبار خير أي لا يوجد لديه أخبار جديدة أو تنذر الخطر، وغالبا ما تقال هذه العبارة، خبور خير في بداية الرد، حتى لو كان هناك أخبار غير سارة
(3) يعرف الصرب محليا في ظفار، وهو الوقت الذي ينجلي فيه الضباب وتشرق أشعة الشمس على روابي الجبل، كأنها تجففه من الرطوبة التي كانت عالقة به طيلة موسم الخريف.