السّوس

لذة الغواية - نصوص ورشة الكتابة القصصية

0 594

دلندة الزغيدي – تونس

يعبر المارّون من أمامي وأنا مستند إلى حائط متهالك، أنتحب في صمت، كنتُ في أحلك مظاهر القبح والعوز، عضّني السّوس على مهل، عضّني عضّا موجعا بئيسا، أكل لحمي على مهل، حتّى غدوت فُتاة، ما إن تلمسني ببنانك حتّى يتطاير لحمي مثل دقيق ناعم. لم ينتبه إليّ أحد حتّى صاحبي. أنا أيضا لم أُعرْ الأمر اهتماما في البدايات، كنت أحسّ بأنّ شيئا ما ينهش لحمي، أستشعره ولكن لم أكن أراه، ولمّا اشتدّ البأس وزحف السّوس بهدوئه القاتل، فثقب جلدي، ونخر لحمي، ووصل إلى العظم، شكوت إلى صاحبي، ذلك الشّيخ المرمرم شحما ولحما، الثّقيل الحركة، فلم يبالِ بشكواي. وضعني صاحبي مع أبناء جنسي أكواما معرّمة، مكدّسين بعضنا فوق بعض في غرفة لا ترى نور الشّمس، وكان يجلس على كرسيّه الوثير ويضع على مكتبه ترمس شاي وصحنا مليئا بالتّمر وبعض السّكاكر، ينغمس في التهامها، ودون أن ينظر إلينا يتناول جهاز التّحكّم وينتقل بين القنوات ليستمع إلى الرّويبظة بكلّ جوارحه.

أمّا أنا فكنت أسترق إليه النّظر بحسرة، أسأله: “لمَ اشتريتني؟” فلا يردّ. “وكيف يردّ وهو لا يسمعني؟ وهل يستمع السّيّد إلى عبده؟”. أذكر أنّه اشتراني في ذات صفقة، في سوق نخاسة لا يرتاده إلّا بضعة أنفار أتوا من زمن غابر، وأذكر أيضا أنّه اشتراني بثمن غال، وكنت وقتها في عنفوان بهائي، برّاق، عودي صلب وأوراقي يانعة، أمّا ثمري فكان له مفعول السّحر، يتذوّقني أحدهم فينتشي بخمرة نادرة المذاق، تصعد نكهاتي لتستوطن المخيّخ، فتهيّج الغدّة الصّنوبريّة فتنتصب، وتبدأ الآلة في الدّوران لتحرق الهشّ وتدحض المتآكل، فيصفو الذّهن ويرقص الفؤاد طربا لِكَلَمي. كنتُ أتغنّج بين أيادي أولئك القوم وهم يقلّبون أوراقي النّديّة، ويستطعمون حلاوتي التي تمعس قلوبهم معسا، وتهيّج حواسّهم، وتلج أرواحهم وتثوّر أفكارهم، كان صمتي جبّارا لذيذا، يلج كلّ عضو فيهم، كنت أنتشر في أرواحهم وفي عقولهم وفي دمائهم دون أن يشعروا فأتملّكهم وهم يظنّون أنّهم تملّكوني.

كان صاحبي يفخر بي وبرفاقي، ولكن كنت أحسبه من الجاهلين لأنّه فقد نشوة مذاق خمرتي، وزهد في سحري واستبدله بسحر آخر، وما أكثر أسحار هذا الزّمان. ركنني صاحبي هناك في مكان معتّم وزَعفتني نفسه، وتناقص عدد أولئك القوم الذين كانوا يلهثون وراء الظّواهر الحِبِّيّة الشّبقيّة، فذبلت أوراقي، وشحبت ألواني، وبهت صوتي الصّارخ الخفيّ، حُبِستُ هنالك في زنزانة ذلك الشّيخ الذي يبدو أنّه أصابه الخرف، وهجرني عشّاقي الذين استبدلوا خمرتي المعتّقة بخمور أخرى “فالصو” تُسكرهم لحظة فيتحوّلون إلى غوغاء، يتكلّمون ويتكلّمون، ويكرّرون نفس العبارات، ويردّدون نفس الأفكار، ويلتهبون لحظات ثمّ ينطفئون وتتلاشى أصواتهم تلاشي الفقاعات، فتمتدّ لهم يد بالكاد يرونها بكأس زائفة، يشربون ويهيجون ويمورون مور العباب في العتمة، ثمّ ما يلبثون أن يخمدوا من جديد. استبدلوا خمرتي الملتهبة بأخرى تنشيهم للحظة ثمّ تخسف بهم في جبّ القبح.

بعد فترة الحجر الصّحّي، أتى صاحبي وفتح تلك الحجرة التي حبسني فيها لسنوات دون أن تلمسني يده أو يد زائريه، التهمني النّسيان واستفرد بي السّوس، كنت أستغيث ولكن صوتي كان مبحوحا باهتا، وكان صاحبي ينعم بغيبوبة مطوّلة فاستغلّ السّوس تلك الفرصة الغالية وأخذ يعضّني على مهل، فتآكلتْ أوراقي وتخرّمت، وصل السّوس إلى العظم. شمّ صاحبي رائحة رطوبة خانقة بعد فترة حجر دامت نصف عام وبعد موسم خريف رطب، فتآمر عليّ الإهمال والخريف والحجر وكوّنوا ثالوثا مرعبا، تداولوا عليّ كمغتصب أثيم، فأطفأوا نوري، كانت كورونا تعبث بالأرواح في الخارج وكان السّوس يعبث بي داخل حبسي.

مرّر صاحبي راحة كفّه على خدّي الأسيل فتفتّت لحمي بين أنامله، تلمّس أصابعه فإذا بلحمي كغبار، كحبّات رمل جافّة تذروها رياح سموم، نظرتُ إليه وكنت أستعر حنقا، ولكم تمنّيتُ أن أغرز فيه أسناني وأعضّه مثلما عضّني السّوس، ولكنّ الوهن كان قد تحرّش بي وخذلتني عافيتي من أن أثأر لنفسي. أخرجني صاحبي من تلك الغرفة المعتّمة ليَصْلِيَني تحت أشعّة الشّمس الحارقة فقد أعلمه خبير في الورق أنّ لا شفاء من السّوس إلّا بحرقه تحت أشعّة الشّمس.

أسندتُ ظهري إلى الجدار لأصطلي تحت اللّهيب، فشفائي لن يكون إلّا بأن أكتوي بالحرارة بعد أن اكتويتُ بالرّطوبة، كان المارّة يعبُرون دون أن يشعروا بوجودي، ولعلّ بعضهم ظنّ أنّني قمامة، كان منظرهم غير مألوف لديّ، كانوا حثيثي الحركة، واضعين في آذانهم كرات صغيرة، وجوههم واجمة وشفاههم تتحرّك وكأنّهم يتكلّمون رغم أنّهم كانوا فرادى، كان بعضهم يضحك، وبعضهم يسبّ أو يشتم، وكانوا من الغرابة بمكان إلى درجة أنّ بعضهم كان يهزّ رأسه بحركات متواترة فيما يشبه الرّقص، وفجأة يصدر صيحة “أَوْوْوْ”، فينظر إليه النّاس ثمّ يواصلون سيرهم بلا مبالاة، بدت لي تصرّفاتهم غريبة ولا أذكر أنّني التقيت يوما قوما يشبهونهم.

غمرني الغمّ لما آلت إليه حالتي وحالة النّاس، مرّت بجانبي سيّدة لا تلبس تلك الكرات في أذنيها، كانت تتمتم بطلاسم لا يفهمها بقيّة المارّة، توقّفتْ بالقرب منّي وقالت بحرقة: “خسِستِ أيّتها الدّنيا أذللتِ عزيز قوم.” وأخذت تقلّب كفّيها وتقول: “ثروة مهدورة”. وانهمكتْ تجمّع أشتاتي وتلملم أشلائي، ثمّ توجّهت إلى صاحبي وسألته:

  • بكم تبيعه؟
  • فردّ: “ادفعي ما شئتِ، وإن أحببتِ لديّ الكثير من أمثاله.”.
  • قالت السيّدة بلهفة: “أين؟ أعطنيهم!”.
  • أجاب: “خذيهم كلّهم، حتّى ببلاش”.

أخذتني برفق، غمزتها رفيقتها: “دعيك منهم إنّهم مسوّسون، سينخر السّوس بيتك، وسيأتي على كلّ شيء.”.

لم تأبه السّيّدة لكلام رفيقتها، أخذتني بعطف أمّ، وأبحرت في جوجل بحثا عن وصفة لقتل تلك الآفة الغدّارة، وها هي لا تزال تنقّب بنظرها الضّعيف، وتجول بعينيها القابعتين وراء بلّورتين سميكتين آملة في أن تجد عقارا يشفي أسقامي من السّوس.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.