آخر اللّيل

لذة الغواية - نصوص ورشة الكتابة القصصية

0 975

طفول سالم – عُمان

عند منتصف الليل؛ كان الجو هادئا تماما. في تلك اللحظة أخرج رأسه من النافذة العلوية لسطح بيته، كانت ثمة شهقات قريبة من الزقاق المقابل. ثمة حشود متجمعة حول متشرد عجوز لطالما تسكع في تلك المنطقة ليلاً، تساءل في نفسه عن سبب تجمع الحشود. لم يستطع أن يمد رأسه الذي يشبه المكعب أكثر ليقترب من الأصوات المختلطة بشهقات وأنين العجوز.

التقط صوتا كان الأوضح بينهم: هيا أسرعوا، خذوه قبل فوات الأوان.

صرخ أحدهم: أنه مجرد حادث بسيط لم أقصد أن أدفع ذلك المتشرد التافه. شد وثاقه الآخرون وأدخلوه إلى سيارة مصفحة سوداء دون أرقام.

لم يبصر جيدا ما نوع السيارة ولا إلى أين اتجهت. لم يكن ثمة مفر من الخروج من البيت والتوجه إلى مكان الحدث. تسلل على السلالم، ومشى على رؤوس أصابعه الصغيرة. وفتح الباب بهدوء؛ إلا أن الباب أبى إلا أن يصدر صريرا متقطعا ومتشنجا. تركه مفتوحا وخرج مسرعا. تعثرت قدماه الحافيتان بمزلاج كان قد وضعه عند الدخول وسط الممر، ارتطم رأسه بعمود الكهرباء، شعر بالإجهاد فاتكأ على جدار انعكس عليه ظل العجوز المتشرد بساقِ واحدة. أصابه دوار وطنين في أذنيه لا يتحمل رفع بصره ليحدق مجددا إلى الظل وهو في غاية التعجب، كان المكان مظلمًا، وعمود الإنارة بعد الاصطدام صار سيئا، فزاد هذا من إحساسه بعدم الارتياح، حاول الاقتراب من مكان العجوز، زاد انقطاع الإنارة فأمسى الزقاق مظلمًا. دلف إلى الجانب الثاني من الزقاق كان المكان هادئا جدا وتلك الحشود اختفت في غمضة عين، تلك اللحظة التي قضاها واقفا زادته وحشة وشعرَ بالوحدة تماما ورغبة عارمة في الرجوع إلى بيته فاستدار مدبرا؛ ولكن هناك شيء يمنعه من التحرك لا يعرف ما هو وقدماه تسمرتا في مكانهما، لقد أفقده رباطة جأشه ذلك العجوز اللعين أين اختفى؟ شعر أن داخله ممتلئ بغمغمات العجوز المتشنجة، وأن قدميه بدأتا الدوران ببطء. شعر بأنهما تنبضان بشدة، غلبه الإحساس بأنه يقف على جثة العجوز المتشرد وعينيه تحدقان به بقوة، إحساس بأنه في نقطة اللاعودة، في تلك اللحظة المرعبة ظهرت أمه أمام عينيه، جالسة على عمود الإنارة رافعة بين أصابعها حذاءه الصغير جدا قالت له بصوت العجوز: ” امضِ، هيا، أسرع ارتدي حذاءك” وجد أنه يتلعثم وهو يمد يده إلى أمه “ألا ترين أني أقف على جثة هامدة” فابتسمت أمه ابتسامة ازدراء” أنت دائما هكذا، ولد ممتلئ بالخيال، أتقول إنك تراني جالسة على عمود الإنارة خلف زقاق بيتنا؟!. تأوهت بصوت مخيف ثم تحولت إلى رأس قط جارهم المنقط كان رأسه كبيرا جدا أخرجت لسانها له. شعر بدوار، لم يكن واثقا أنه كان يتكلم بصوت عال أم لا. كان يتساءل عما إذا مازالت الجثة تحت قدميه، لكنه شعر بأن قدميه توقفتا عن النبض ولم تحاولا الفرار، شعر بأن أحدهم يراقبه لكن من اي اتجاه؟ لم يكن ثمة برهان بأنه واقف على جثة العجوز عدا ذلك الحدس المقيت، قرر ألا يُحرك ساكناً. أن يحافظ على صمته وأن يدع أمه تكتشف بنفسها مكانه. او قد تكتشف مكانه بعد أن يقضي عمره واقفا على تلك الجثة البالية، ثم أخذت الافكار تتسارع، ذلك الرجل الذي اقتيد إلى السيارة السوداء المصفحة بلا أرقام نعم لم يشاهد بها أرقاما بكل تأكيد، إلى أين أخذوا ذلك المجهول ماذا فعلوا به، وما حقيقة جثة العجوز التي أقف عليها؛ ما هذا الجنون، أنى اهلوس بلا شك هل من المعقول أن تجلس أمي على عمود الإنارة مرتدية رأس قط جارنا المنقط؟ أحاطت بعينيه عتمة عالم مجهول، أخذت عيناه تشردان إلى الأعلى صعودا من عينين العجوز المفتوحتين إلى عمود الإنارة المتهالك المتقطع ضوءه، مرورا بزقاق الجيران حتى رأى ذلك القط المنقط يمشي متبخترا على السياج بدون أن يلتفت إليه ويرى حيرته الواقفة بين تعجب وضياع أنفاسه التي تزايدت في الخفقان: ” كيف عاد الى الحياة وقد دفنته أمس.. عندما صدمته بدراجتي دون أن أقصد”

تضايقت حدقتا عينيه عندما تذكر أنه دفنه هنا تحت قدميه العاريتين النحيفتين، أخذ النبض يتزايد في عروقه، في تلك الأثناء ظهرت أمه تتحرك بتثاقل ملفوفة بالصمت الذي بات مزعجاً إلى حد شعر بأن عينيها تتكلمان بلغة الإشارات. فذات يوم عندما أسقط صحن الكب كيك كانت تقف في الخارج تهدي جارتها بعضا منه، أتت مسرعة دون أن تفتح فمها بكلمة، حملقت به مطولا كانت اشاراتها مسعورة تبعث على الحذر، حاول أن يبتعد بنظره عنها فسقط على الصحن ليقطع وريد ابهام رجله اليسرى. حينها اقتنع بأن عينيها تتكلم لغة الإشارات وعليه الحذر بأن سوءًا سيقع. لم يكن الأمر سهلا بأن يخفي جثة هر ضخم منقط تحت جدار بيته بين زقاق الجيران فقد تنتشر تلك الرائحة الكريهة. انه ضخم لم يستطع حمله فقد جره بصعوبة في تلك الحفرة الضيقة التي خلفتها الأمطار الغزيرة كان محظوظا بأنها عميقة لدفن قط بحجمه.

كانت الأم تفهم من توتر عينيه بأنه ارتكب شيئا سيئا، أنها مرغمة على أن تنبش عميقاً في داخله عن حقيقة ما اقترفت يداه، الأمر الذي زاد من خوفه عندما رأى السيارة السوداء المصفحة قادمة بأقصى سرعة دون أنوار أماميه مما زاد وضعه سوءا لم يستطع أن يحرك قدميه المثبتتان على جثة العجوز المتشرد أو جثة القط المنقط! لم يستطع التأكد ما الذي يقف عليه، زادت الرجفة في جسمه محاولا الهروب من مواجهة السيارة القادمة أمامه، انهم قادمون لأجله بعد ما اخذو ذلك الرجل المجهول. أخذ يصرخ مهرولا في الشارع والسيارة باتت خلفة مباشره صوتها أشبه بقنبلة موقوتة، تتكتك وتنقر رأسه تك تك، أقفل فمه لكي لا تسمع صرخته رغم برودة الطقس أخذ العرق ينهمر من جبينه ويرتجف ويهتف مستغيثا بأمه التي تطارده من فوق السياج كالهر وتخرج لسانها لتنظيف فروها المنقط، تصرخ به؛” أيها الولد ما تظن أنك فاعلا؟” يصرخ بأعلى صوته وهو يهرول ” أنا آسف لم اقصد ان أصدمه انها غلطتي انها غلطتي” بدء الزبد يخرج من فمه وضاق تنفسه من الهرولة تعثرت قدماه ببعضهما فسقط أرضا على اسفلت الشارع المتكسر، توقفت السيارة لتفتح جميع ابوبها نزل منها ثلاثة رجال أعمال يلبسون بزات عمل، وكل واحد منهم يحمل حقيبة جلدية سوداء منتفخة تحت معطفه، كانوا متساويين في الطول؛ خطواتهم ثابتة، وقفوا بالزقاق عند جثة العجوز وفتحوا الحقائب بشكل منظم وسريعا معا في آن واحد؛ لتندلق جثة العجوز المتشرد التي أحاطت بها ديدان لزجه بكل انسيابيه الي حقيبة أحدهما، بينما خرجت جثة القط المنقط تمشي إلى سياج بيته عافية متعافية كانه لم يصدم، وخرجت أمه من الحقيبة الثالثة جلست متشبثة بحقيبة يدها واقفة في مقدمة السيارة بينما الرجال الثلاثة ركبوا بكل انسيابية داخل السيارة ورحلوا وظلت أمه واقفة وسط الشارع ثم اقتربت منه بخطوات ثابتة وحملته كطفل بين ذراعيها. ودخلت به الغرفة لتضعه على سريره الدافئ ليغمض عينيه المحدقتين في عيني أمه السوداوين.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.