منْ يرثُ حرصي على أشيائي؟

لذة الغواية - نصوص ورشة الكتابة القصصية

0 569

خديجة بن إبراهيم – تونس

ككلِّ امسيةٍ صيفيّةٍ، جلستْ حوريةُ تلك المرأةُ الستّينيّةُ في “وسطِ الدّارِ” وقد رصَّفتْ بكل عنايةٍ على سُفْرةٍ مستديرةٍ طبقا من البورسلان ذا جوانبَ فضيةٍ مزخرفة عليه فنجانا قهوة و”الزَّزْوةَ” وعلبتا السّكرِ والبنِّ الذي تسرّبتْ رائحتُه لتجعلها تستعجل زوجَها قائلةً: “هيا يا حاج ازْرِبْ روحكْ، قريب المغرب “.  وضعتْ الماءَ فوق “السبيريتيةِ” وتهادى الى سمعِها صوتُ نعلِ الحاجِّ يتعثرُ “جايْ جايْ”. وصل وجلس على كرسيٍّ خيزرانيٍّ ورثه من أبيهِ كما ورِثَ هذه الدارَ. “دار عربي بالْفُمْ والْمِلا” نموذجٌ للبيوتِ التونسيةِ العتيقةِ بُلِّطتْ كلُّ أرضيتِها برُخامِ إيطاليا، يتوسطُها فناءٌ فسيحٌ زُيّنتْ جُدُرانُه بسيراميكٍ اسبانيٍّ يؤرخ زمن بنائها. تتوسط كل جدار في هذا الفناء غرفةٌ تسمَّى بوجهتِها. الغرفةُ الشرقيةُ للأبِ، والغربيةُ للبناتِ والجنوبيةُ ” القِبْليّة ” للأبناء في حين يجمع الجدارُ الشمالي أو”الجبلي” بابَيْ السقيفةِ والدويرةِ حيثُ يجتمعُ في فناءٍ صغيرٍ المطبخ ُوالحمامُ وبيتُ المؤونةِ. هندسةٌ معماريةٌ تعكِس وعيًا بأصولِ الحياةِ.

سحب جريدتَه فوقع بصرُه على فنجانيْ القهوةِ وعلق مشمئزا: “بجاه ربي هاتِلْنا الفناجينْ الأخرى متاعْ روميو وجولياتْ”. فناجينُ بُرسلانٍ رفيعٍ لا تضعهما حوريةُ الا للضيوف تفاخرا لقيمتهم التاريخية والاجتماعيةِ. ثم أردف متمتما بصوت منخفض متجنبا شر ردودها السامة – “مش عارف لشكون مخبيتهم؟ “لسوء حظه سمعته وردتْ بكل ثقةٍ: “مخبيتهم لمرأة ولدي الي باش تكون كيف ما يحب خاطري”. تغيرت اساريرُ وجهِهِ وسألها ” ما تقوليش رميت عينك على بنية؟” أومأت برأسها إيجابا مؤكدة قوله. فكانت هذه الجلسةُ كافيةً لان يتم كل شيء في غضون شهرين بين خطبة وزواج ودت فيه حورية وداد الكنة العروس بكل  مصوغها بعد ان وزعت ما زهدت فيه لبناتها الثلاث- كل على حسب مكانتها في قلبها – وتركت الباقي للوريث الشرعي ابنها الوحيد مجسدا في الكنة.

حلتْ الكنةُ وداد ببيت العائلةِ ومرّ شهر العسلِ عسلا على قلب العريس والحماةِ

مرّتْ السنةُ والسنتانِ، كبُر مع مرورها الحفيد وكبُرتْ معه بذرة الخيبةِ في نفس حورية: ودادُ لا ترعى أشياءها بنفس الحرص، وتبتلع هفواتها حبًّا في ابنها. إلّا انها غصّتْ بما حصل

لمّا دعتْ ودادُ كلَّ أهلها أيامَ حفلِ ختانِ الحفيدِ: كانت حوريةُ تُراقِبُ من على أريكتها وبامتعاضٍ أشْياءَها تُستعملُ بعنْفٍ، ورحل قلبُها مع أوانيها التي خرجت مملوءةً كسكسيّا دون رجعةٍ، وفقصتْ اقدام الأطفال الأشقياءِ قلبها وهي تدوس بطانيات تغطاها الدولاب أكثر من حورية وابنائها كانت قد اشترتها جهازا لبناتها لم ترها مناسبة لبيوت اصهارها. فوضى تعمُّ خاطرَ حوريَةَ تفوق الفوضى التي تركها الضيوفُ وقد رحلوا الا خادمةَ أمِّها التي أحسنتْ إعادةَ نظامهِ.

دخلتْ ودادُ غرفتَها الجنوبيةَ لتعودَ وفي يدِها علبةٌ فضّيّةٌ لمع بريقُها في قلبِ حوريةَ وجعلها تنتفضُ من على اريكتها معترضةً ودادَ “ما هذا”؟

ردتْ ودادُ متجاهلةً يد الحماةِ الممدودة نحو العلبةِ:” المناقش” سأهديها للخادمة عيشة”. واختطفت العلبةَ من يد ودادِ قائلةً ” سَيَّبْ لهْنا جِبتِيهِمْ مِنْ دارْ بوكْ؟؟مناقش فوندو بجوهر زمني يعلم ربي كيفاش شريتهم”.

تعالتْ الأصوات في ذاك الصباح لتصل الى آذان البنات الثلاثِ اللّاتي بتن ليلتهنّ يقضمن حسرةً خلّفها حفل الختان: امرأة الخو كلب عدو. عرفن سبب الخلاف.. وانهلن على الام بوابل الشماتة “اشربي.. ألم تحرمينني منهم ” فأنت ممن يُؤثرون على كناتهم ولو ببناتهم خصاصة؟ ربي موجود ” هكذا صعقت خيرة البنت الكبرى أمها بشيء كتمته في نفسها. ماذا تتوقعين اذن هل ستحافظ الكنة مثلك على اشيائك؟ هكذا كان استهزاء خولة البنت الوسطى. “من التخمة التي اصابتها جراء وفرة الهدايا التي تكرمت بها على ست الحسن يا رب تكمل توزيع الباقي ” دفعت مداخلة خلود بالأم الى الصراخ اقلبوا وجوهكم امشوا من قدامي “يدخل خالد وقد علم بكل ما جرى معاتبا امه: الم تكن هديتك؟ انتهى ما عدت تتحكمين فيها.” احكم في ضروسك وضروسها أووه امشو امشو من قدامي ” واتجهت صوب غرفتها عندها عمدت وداد الى قطع طريقها هامسة بكلمة جمدت عروق راسها:” تموت وتخليهم للي ما يرحّمِشْ”

باتت حورية ليلتها والجملةُ تنهش ذاكرتها وتحفر قلبها. لم تتوقّع سماعها ممن ظنتها حبل وداد تذكرت كيف اختارتها من عائلة راقية لتقدر قيمة أشيائِها وتحافظ عليها. حاصرها الندمُ على ظلمها لابنتِها وأطبقَ صدى كلماتها المشبعةِ وجعًا على نفسها وغرقت في عالمٍ آخرَ لا نهايةَ له.

طلع الصباحُ وصحنُ الدارِ يفتقد لوقع قبقابِ حوريةَ، ورائحة قهوةٍ معطَرةٍ بماء الزهر استيقظ الجميعُ ولا صوت لها. يقينا انها غاضبةٌ كعادتها وآثرتْ البقاءَ في غرفتها تجنبًا لاحتكاكٍ مكهربٍ. الا انَ قلب البنت مهما عقّ لا يمكنه تجاهل ثغرة غياب الأم دفعتْ خِيرةُ بابَ الغرفة الشرقية مناديةً أمها ثانية وثالثة وفي الرابعة وصلت عند فراشها لترى عيونا مغمضة وفمًا مفتوحًا ووجهًا مشوهًا ويدًا تدلت من فوق الفراش فقدت اصابعُها كل حراكٍ لتأكدَّ غيبوبة تاهت فيها حوريةُ إلى عالمٍ ثانٍ.

“جلطةٌ دماغيةٌ من الدرجةِ الثانيةِ والحمد لله جات باللطف” هكذا كان ردُّ الطبيبِ بالمصحة التي قضت فيها حورية أسبوعي علاجٍ ظلت فيهما خيرة مرافقة لامها تعتني بها وترعى حالها. في حينِ يكتفي البقية بزياراتٍ بالتداولِ. أسبوعان توقفت فيهما حوريةُ عن مراقبة أشيائها الغالية على قلبها وعن الامر والنهي والتدخل في كل كبيرة وصغيرة.

أسبوعانِ كافيانِ لتجدَ ودادُ فرصةً لتعيدَ ترتيبَ البيتِ على مزاجِها، تخلَّصتْ من اغراضٍ رأتْ ألّا فائدةَ منها، وتمكَنتْ في غياب خيرةَ ان تبحث في أشياء حوريةَ” متى أقدرُ على رميَ كلِّ هذا ” تمتمتْ وهي تُغطّي كومة أغراض بلحافٍ أبيضَ. سعيدةٌ هي مع خالدٍ لا ينقصها سوى بيتٍ مستقلٍ وحريةٍ تتوق اليها عطشى. ازداد توقها اليها بعد ان التحقت خيرة ببيت أبيها وقد طُلّقت.

تعافتْ الامُّ وعادتْ الى البيتِ دون ان تعودَ معها الحياةُ لوُسْطِ الدّارْ ولأمسياتِ القهوةِ مع الحاج: جثّةٌ ممدودةٌ على الاريكةِ أو كُتْلةٌ جالسةٌ على كرسيًّ متحرِّكٍ تراقبُ حركاتِ كنتِها في صمْتٍ. كانتْ هذه الأخيرةُ تعمد إلى التفشي مما شدّدت فيه حوريةُ عليها الخناقَ. فرشتْ السقيفةُ بمفارشِ الحريرِ التي اقتطعت الحماةُ ثمنَهم من قوتِ يوم اسرتها. ورصّت الطاولة بكؤوس الكريستال كانت قد اشترهم بأقساط شهريّة. ومدّتْ الزّرابي القيروانيةُ -التي لم تلمس البلاطَ إلّا أربع مرات عند زفاف أولادها-في غرف النّوم. في الحقيقة لم تخطئ ودادُ بل بالعكس اضافت الى البيت الكبير غيمة دفء حجبت عن حورية رؤيتها للحقيقة. بل ازدادت حالتُها سوءًا وازدادُ ارتفاعُ ضغطها، واستوجب ذلك استدعاءَ الطبيبِ الذي دعاهم الى إبعادها عن كل توتّرٍ. ادركتْ خيرة انّ ودادَ هي سببُ تراجعِ حالةِ أمِّها، وقررتْ التصرّف.

استغلّت اجتماع أبيها وأخيها في وُسْطِ الدارِ لتُجرم مخاطِبةً أخاها:” ما سببُ تعكّرِ حالةِ أمّي سوى استفزازات زوجتك المبالغ فيها، والحل أن تُغادرَ البيتَ وزوجتَك لن اسمحَ لها ان تكون سببا في موتِ أمّي قبل أوانها. دكَّ الكلامُ قلبَ خالدٍ دكًّا وانتفض واقفًا: “تُطرُدينني من بيتي؟”

-“لم يصرْ بيتَكَ بعدُ! لا يزالُ والدي على قيدِ الحياةِ، إمَّا أنْ تُغادرَ انتَ وزوجتُك او أن تُخرجَ أباكَ وأمَّك إلى بيت إيجارٍ”!!

دارَ هذا الحديثُ الحازمُ على مرأى ومسمع الحاج -الذي كعادته- لم يكنْ لهُ موقفٌ سوى سعيهِ لتهدِئَةِ الأمْرِ وكلمته المشهورةِ” صلّوا على النبيِّ”

وقفتْ خيرةُ لزوجةِ أخيها كالشوكةِ في الحلقِ وهي تجمعُ اغراضَها لتترُكَ متاعَ أُمِّها التي لم تُقَدّر قيمتها. رحلَ خالدُ ورحلتْ معه أماني حوريةَ وحلمٌ خالتْ انّه تحققَ ورغبةُ أبٍ في ملء فضاء داره بأصوات صبيةٍ يكبرونَ أمامه. لكنّه كان قرارا لا بدَّ منه.

سخَرت خيرةُ كلَّ جُهْدِها حتّى تتعافى أمُّها وتعودَ إلى سالِفِ حياتِها. وسعتْ في نفس الوقتِ إلى بثِّ رسالةٍ خفيَةٍ أدركتها حوريّةُ من حركاتِ ابنتِها تذكرتْ كيف كانت خِيرَةُ دوما تنتقد شدّةَ حرصِها على أشيائِها وتدفعُها الى ان تخرجَ من هذه الدنيا بأكبرِ عددٍ من المتعِ وأضخم حجمٍ للسعادةِ.

 لم تبتعدْ عن ودادِ في استعمال أشياءِ أمها لكنّها استعملتْها بحبٍّ راعتْ فيه حرمانًا كابدتْه امُّها وتشبتًا بالحياة جسّدَتْهُ في حرصٍ شديدٍ على هذه الاشياءِ. هي أيضا عاشتْ ما عانتْهُ أمُّها وهي ترى أشياءها تستعمل بدون حرصٍ كلّما تذكرت انها هي الأخرى تركت أشيائها في بيتِ زوجها مقابل ان تنجُوَ بنفسها. أدركت حوريةُ وهي ترى شرود ابنتها -وفطرة الامومة أوصلتها للسببِ والمسببات -أن الحياة تستوجبُ فلسفةَ زُهدٍ: إذ ليس الزهدُ الا تملكَ شيئا وانما الا يمتلكك شيءٌ

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.