جوع نافذة

لذة الغواية - نصوص ورشة الكتابة القصصية

2 1٬573

مفيدة جاء بالله – تونس

ذات مساء مثخن بالوحدة والملل، أيقنت سناء أنه لا فائدة من الجلوس وحيدة في شرفة شقتها الصغيرة المعلقة في الطابق الخامس في بناية عتيقة. وقررت أن ترحل إلى مكان آخر أكثر دفء، إلى حيث يمكن للشمس أن تصنع أزمنة نهارها. ولم لا؟ فقد تحظى بمصاحبة العصافير أو السنانير السائبة، هي ترغب في مصاحبة الطيور والقطط وأصبحت تلك قناعتها منذ زمن، منذ أن تساقط أصدقاؤها واحدا تلو الآخر من شجرة عمرها، ولم يبق في قلبها سوى غصن أجرد تعلق عليه بعضا من صبرها.

    نظرت إلى كومة أشيائها معلبة في صناديق بلاستيكية، وأخرى رصفت بتؤدة داخل حقائب، استكثرتها وهي تقول لنفسها: “ما حاجتي لهذا كله؟ حصيرة ومرتبة خفيفة تفي بالغرض” وأزاحت غطاء صوفيا وثيرا بألوان خمرية وبنية متجانسة، نسيت أصلا كيف حصلت عليه، لعله كان هدية زوجها قبل أن يهجرها ليتخذ له امرأة أخرى عشيقة، إذ كان كثيرا ما يهديها أغراضا لغرفة نومها. فلا زالت إلى الآن تذكر قميص النوم الزهري ذي الحمالتين الدقيقتين الشفافتين، كان من أحب الأشياء إلى قلبها، تذكرته، فتحت حقيبتها ثانية وأخرجته، تحسست ملمسه الناعم، وتشممت بقايا عطرها عليه، وحررته من النافذة، فطار في الهواء وتهاوى شيئا فشيئا إذ لم يكن بوسعه أن يطير أكثر، ثم ما لبث أن خمد على أرضية الرصيف جثة صغيرة هامدة لا حياة فيها.

            فحيث سترحل الآن لا مغزى أبدا لثياب أنيقة ومنسقة، بعثرت محتوى الحقيبة، فطارت الملابس هنا وهناك على أرضية الغرفة الصغيرة، جمعتها كما تجمع القش ورمتها من النافذة، أشاحت بوجهها عن النافذة، والتفتت إلى صناديق احتوت أدوات طبخ وفناجين قهوة وشاي. بدت فناجين البورسلان لامعة وبراقة، مغرية في اصطفافها، مخمرة كقباب جسمها عندما كان في أوج عطائه، تنهدت ثم صففتها بانتظام على حافة النافذة وأترعتها ماء وهي تردد:

ماء يا ماء

وهبتك لعابري السبيل

ماء يا ماء وهبتك للرحيل

كل مساء

بلا زاد ولا ماء

وظلت تردد ماء يا ماء في لحن خافت حتى اختفى صوتها داخل صدرها، واختفت في ذهنها صورة آخر الأصدقاء، أصدقاء لم يقاوموا رغبة الانفراط من عقدها. وعادت بسرعة إلى النافذة، دفعت الفناجين الصغيرة دفعة واحدة، وانتظرت حتى سمعت صوتا خافتا لتهشمها على الرصيف.

لم يبق محزوما مستعدا للرحيل سوى كرتون كبير يحتوي كتبا كانت ذات يوم كنزها النفيس، اقتنتهم لا فقط من مالها، بل من فتات قلبها، فلكل كتاب روح تتحرر بين قراءة وأخرى، وتظل تسبح في غرفتها أياما وليالي إلى أن تبدأ في قراءة كتاب جديد. وبيدين مرتجفتين ووجه غارق في البياض، أسلمت الحزمة الأولى منهم إلى النافذة التي التهمتهم بشراهة. وتتالت الحزمات، ولم تعد تشعر بفيزياء جسمها المتنقل بين الكرتون والنافذة، تحتضن الحزمة برفق كما تحتضن طفلا لم تهبها الأقدار قدرة على إنجابه، لكنها ظلت تحتضنه في أحلامها كل ليلة.

أطلت مع آخر حزمة من النافذة ذات الفوهة المتعاظمة، ورأت كتبها وقد تحولت إلى عصافير بأجنحة ملونة تطير إلى الأسفل قبل أن تنكفئ على وجهها مبعثرة ملتصقة بوجه بالرصيف القاسي. عادت إلى وسط الغرفة البيضاء وتحدثت بصوت مسموع: “لا يجب أن أضيع الوقت أكثر، لا بد أن ساعة الرحيل قد حانت” جالت ببصرها في الغرفة، بدت لها ضيقة جدا كما التابوت، غير أنها وفجأة لمحت زوجها متكئا على حافة النافذة. “كيف لم ألمحه؟ متى دخل إلى الغرفة؟” تقدمت منه أكثر، “لعله خيال” شكت لوهلة، غير أن شكها قطعه صوته وهو يأمرها بصوت بارد لا حياة فيه: “لا ترحلي” تقدمت منه أكثر، وتذكرت أول لقاء بينهما، وتسارع مرور شريط حياتها معه أمامها. وأحست بغربة عن تلك الأحداث مع أنها كانت على يقين من حدوثها. وتحركت شفتاها بصوت مكتوم “أهذا أنت؟” واندفعت نحوه مسرعة، عندما فتح ذراعيه ظن أنها تركض لحضنه، غير أنها دفعته بقوة رهيبة لا تدري من أين ولا متى اكتسبتها، وكانت النافذة مستعدة كعادتها لالتهام أي شيء.

والتفتت إلى الباب وهمت بالمغادرة خاوية اليدين، لم تكن تحمل شيئا من مستلزمات الرحيل، عندما تحركت خطاها ناحية المخرج، امتد ذراعان من خلفها فأحاطتاها برفق وتصميم، التفتت فإذا بالنافذة قد نبتت لها أذرع بيضاء أفحوانية تطالان كامل الغرفة جذباها بهدوء ناحية النافذة، طارت سناء بخفة والتهمها الفضاء الخارجي.

ظلت تحلق في الفضاء بعينين نصف مغمضتين. النافذة تعلو قليلا قليلا، كلما رفرفت سناء بأجنحتها البيضاء الشفافة، كلما صعدت النافذة إلى أعلى وابتعدت.

قد يعجبك ايضا
2 تعليقات
  1. سيدة جاءبالله يقول

    انتظرنا بشوق جديدك وكان اكثر من رائع أشجعك سيكون لك شأن حبيبتي ❤🧡💛💚💙💜

  2. سالم تلأنور يقول

    مبدعة دائما كما عهدتك. وفقك الله وأعلى شأنك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.