وسادة من الرّيحان

لذة الغواية -نصوص ورشة الكتابة القصصية

0 669

ثمنة هوبيس – عُمان

تتكئ منيرة على الشجرة الكثيفة، بأعلى جبل القمر، بيدين متقاطعتين على صدرها، وعينان تتجمد فيهما الدموع كأنه نهري ثلجي يتزلج عليه غياب صديقتها الأبدي. تنظر لانقشاع أمطار إعصار لبان وفيضاناته في غرب ظفار، أصبحت المدينة كثوب عروس ظفارية  مطرز بريش طاووس، مروحته مطرزة بالأزاهير الملونة، والفراشات البلورية والبحيرات الفيروزية. ذكرها هذا المنظر بطفولتها هي وصديقتها، عندما كانتا تتقافزان بفرح في برك مياه الأمطار، كتقافز السردين في شباك الصياد في موسم الضواغي.

تتسليان برؤية وجهيهما في ارتعاشة المستنقعات، تغوص أرجلهما فيها، يرفعان ثوبيهما القطنيان إلى تحت ركبتيهما، ليعبرا فوق تلك البرك بسلاسة ومرونة. قالت لها صديقتها: ” سنقطف باقة من الريحان البري؛ كي تضعيها تحت وسادتك، لتساعدك على الاسترخاء”. وما زال عالق بذهنها، لما داهمتها نوبة ضيق التنفس لأول مرة، ولم تعرف صديقتها كيف تساعدها، لتخفف عنها. فأبصرت مجموعة من نبات الريحان، فقربتها من أنفها، فشمته، ارتاحت، هدأت، فأصبحت بسكينة يعقوب لما شمم قميص يوسف، وذهبت في إغفاءة ناعمة.

انزلقت السيارة المقلة لمنيرة وأسرتها إلى المستشفى من قمة الجبل الشاهق، وانعطفت في النزول، والتوت في الطريق الأفعواني، وكادت السيارة تصطدم بالغيمة البيضاء، وعلا الصراخ والولولة خوفا من التدحرج، توقفت السيارة، وسحبت كجريح مهزوم في معركة. مر الوقت بسرعة، وقلب أميرة دقاته أسرع، فأصبح الفضاء الواسع كرتون ضيق تختنق فيه الآمال بالآلام.

تقدم منهم رجل في منتصف الثلاثينات، عيناه تنطلق منها ألسنة غدر وخيانة ناعمة،  تستحي جهابذة الثعالب والضباع من إشعال مثلها، تذوب الصخور تحت أقدامها كقطعة ثلج، تتحول قطع الملح إلى قطع سكر، أذابت قلب منيرة المتعب، وسرت في شرايينها رغبة في مقاومة الألم. قال لهم: “كأنني وصلت في الوقت المناسب!”، ترجل من سيارته، وساعد في حملها، وأصابعه تلامس بدفء بعض أجزاء جسمها، الذى يماثل جسد أفروديت، عندما خرج بها حبيبها آريس من البحر، وشعرها الأسود مرخي يغطي وجهها القمري، التصقت عينيه المزورة بعينيها الشبيهة ببستان ورود لم يسق من سنين. سابق الريح بسيارته ليصل إلى المستشفى في الوقت المناسب، والأطباء طمئنوا أهلها بأنها ستكون بخير بعد العملية.  يخاطب نفسه: “ورثت من والدها المرض والثروة، لازم أخليها تحبني”. اقترب منها، وهمس لها، بكلمات تقطر عشق مسموم، ونظرات تطل منها خناجر الخبث: ” ستكونين لي، بعد ما شفتك، مالي حياة من غيرك”. كلماته بثت الحياة في جسدها المنهك، وصدقت عشقه الرثيث الذي يضاهي نسيج بيت العنكبوت. قالت له:” حافظ على وسادتي المباركة، أتفاءل بها، معطرة بريحان ضريح الشيخ أحمد بن عربية، ومطرزة بأنامل صديقتي، سنلتقي ونلتصق في بعض كتوأمين سيامين “. رد عليها والكلمات تتعثر في فمه:” ط.. ط.. طبعا، اعرف محبتك لهذه الوسادة، وسأضعها بعيوني”.

كلمات أخته ما زالت ترن في رأسها مثل المطرقة: ” منذ خسر ماله، تحول إلى حيوان ماكر، يستغل حواسه الخمس القوية، التي تقوده إلى البنت الجميلة الثرية، لتكون فريسته، ومن ثم ينقض عليها وينهشها ويتركها ملساء كرخامة هندية”. تمعنت في ملامحها، كانت تحمل بقايا جمال بالرغم من أن عينها اليمنى عوراء بحواجب يعشش فيها غراب هابيل وقابيل. لقد بدا لها ما تقوله الأخت ضربا من ضروب الغيرة والحقد، فقالت لها: ” هكذا العوانس العور، إذا لم يجدن الحب الذي يضيء قناديلهن؛ يطفئن قناديل الآخرين، وإذا لم تغرس لهن وردة؛ فإنهن يغرسن سهام الحقد في قلوب العشاق”.

بلعت أهانتها، كمن يبلع الأمواس في حلقه، لتثبت حسن نيتها، وما فتئت تخبرها عن زوجته السابقة المقهورة على مالها، الذي استولى عليه بالحيلة والخداع: ” لقد شهدتُ عليها زورا وبهتانا، فأصابتني لعنة القسم، فأصبحت عيني قطن أبيض، ومن ذلك اليوم قررت كشف ألاعيبه، مهما كلف الأمر”.

حان الوقت لدخولها غرفة العمليات، وقالت له: “خليك معي، خائفة، ضمني إلى صدرك الدافئ “. رد عليها بعجلة: ” الحين جاءني تلفون مهم، باكون أول شخص تشوفينه، أول ما تخرجين بالسلامة”.

هنأها الجميع بنجاح العملية، لا تستطيع الكلام، وفى عينيها كل الكلام، بحثت عنه بين الوجوه كمن يبحث عن إبرة في قش، أرهفت السمع لعل خطواته تحمله إليها، لعل صوته يصل إلى أذنيها. فتشت في أعينهم عن إجابة، كل العيون إجابتها واحدة، وهي انهمار الدموع رأفة بها. مازالت تحت آثار التخدير، لسانها مثل القفل الكبير؛ يمنعه من الحركة، رأسها يدور ويلف كالدولاب: ” أين هو؟ وعدني أن يكون أول من تراه عيني، عندما أفيق من البنج”. أجابتها أخته وهي تتنهد: ” لقد فعلها! الخسيس!، أنه يبسط جاذبيته في كلامه المعسول، وأسلوبه الملتوي، أمام فتاة أخرى ثرية بريئة، انجذبت إليه، وانقض عليها، ويعقد قرانه الآن”. نظرت إليها نظرة مفادها: ” يا ليتني سمعت نصيحتك، وما ورطت نفسي في عشق خبيث مثل هذا”.

أخذت الغيوم تنقشع عن ذهنها، وتذكرت لما كان التخدير يداعبها، ولم يغيّب كل وعيها، كان يمر من أمامها مثل الشبح، يقترب منها، ويتحدث في التلفون بصوت مسموع لاعتقاده بأنها في إغماءه كاملة: ” سنعقد القران في الوقت المتفق عليه”. ويغلق هاتفه ويكمل: ” ما اعرف إيش ممكن يحصل لها أثناء العملية؟.  فثرية في اليد أحسن من عشرة في غرفة العمليات”.  تخاطب نفسها وتقول:” غبية! سمعت ما قاله بوضوح، لكنى اعتقدت بأنني متخدرة، وما ظننته هذيان، كان حقيقة ناصعة”.

سكب قارورة عطره الفواح، برائحة اللبان والعود، ليزورها في غرفتها: قالت له بسخرية: ” رائحة العطر، لم تغط على روائح طبائعك النتنة التي سبقتك “. انبرى يسبح بها في بحار متلاطمة من حجج وأعذار: ” أرجوك، لا تظلمينني، كان ظرف طارئ، المهم، اشتقت لك كثيرا!”.  وأردف قائلا: “أنا تغيرت! سامحيني”. كان يتحدث وسحر عينيه الذي كان ينومها تنويما مغناطيسيا، فقد تأثيره عليها: ” أعدك أنني سأكون مثلما تريدين”. مهارات الاحتيال والجاذبية المراوغة، لم تؤت أكلها، واتخذت وضعية المثل الظفاري ” ديف ديف وهي في الليف”. قالت له: ” توقف عن عزف هذه الموسيقى الثرثارة التافهة، ما عادت تطرب عقلا متعبا، ولا ترقص آمال قلب جريح”. وواصلت حديثها المتقطع بالحسرة:” شواهد كثيرة منك، أكدت لي طمعك وجشعك، وأنا أداري شمس الحقيقة بالغربال، وخاصة لما بدأت تستعجلني في الحصول على ارثى من أسرتي، بالرغم لم يمر على علاقتنا فترة طويلة.  مثلك لا يدرك، بان الإرث ليس مالا فقط، بل هو تفاصيل من الحب والذكريات المحفورة في الوجدان. اطلع من هنا، طلعت روحك!”.  متهالكة ومتثاقلة نفسيا وجسديا، لكنها تحس بأنها ريشة خفيفة وحرة، تخلصت من أدران عشق ممسوخ.” ما الذي أوقعني في شباكه وانا عيني تشوف؟ لعلها فوبيا المستشفى، والحاجة لعناق الجسد والروح، للكلمات التي تؤرق بساتين زهور في قلبي. مهما كانت الحاجة إليه، وغلقت الأبواب أمامه!”.

في النهر الجاري، وتحت الشجرة الكبيرة طهرت منيرة روحها وقلبها ووسادتها من درن بقايا الحب الذي كاد أن ينهشها ويفترسها، ويرمى بأوصالها على قارعة الحب المسموم. أبصرت بستان الريحان التي ألقت بذوره صديقتها، لملمت أوراق الريحان اليانعة الخضراء، حلق بها عطر الريحان الساحر إلى غيمة وردية، تزقزق فيها العصافير بأغاني طفولتها العذبة.

استلقت على سريرها، ودست أنفها في الوسادة المطبوع عليها أوراق شجرة الموز الشديدة الاخضرار، وشمتها، وتذوقت كل جزء فيها بعيون قلبها، دب في أوصالها استرخاء جميل. هبت نسمات الربيع الليلية الندية، تحمل رائحةٌ حميمةٌ، تغلغلت في وجدانها، وشعرت بأنفاسها، طيف صديقتها تلوح لها بيديها من الشرفة، وفى يدها باقة من ريحان الجنة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.