البطل ذي الألف وجه

مقطع من رواية "كافكا في طنجة"

0 1٬302

محمد سعيد احجيوج- المغرب

* * *

لا يعرف إن كان يكره أباه حقا. بالتأكيد لم تكن طفولته سهلة. طبيعة عمل الأب الليلي والنوم طيلة النهار لم يسمحا بنمو علاقة طبيعية بينهما. ولو أضفنا عصبية الأب وعنفه وعقابه المبالغ فيه غالبا لأخطاء الابن التافهة سنجد أنه وإن لم يكن الابن يكره أباه فهو أيضا لا يحبه. لا يجد في قلبه أي شعور بالمحبة تجاه الأب، وحتى لو كانت ثمة حفنة من المحبة في قلبه ذات يوم فهي لا شك قد تسربت خلال أيام المعاناة التي حمل خلالها الابن مسؤولية العائلة على حين غرة. مع ذلك، لن ننسى أن هذه الأسرة تعد نفسها عائلة مغربية تقليدية محافظة من شمال المغرب. ستجد الاحترام دائما في قلب الابن تجاه أبيه، ولو كان مدفوعا بالواجب مقيدا به، ليس إلا.

لكنه مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، لم يستوعب الكراهية المحمولة في سؤال أبيه الاستنكاري، ولا المقت والامتعاض في قسمات وجهه حين أطل على غرفته ورأى مرضه. نعم مرضه. صفق بكفيه. الآن وجد الكلمة المناسبة ليصف بها نفسه. إنه مريض. التدنيس الذي يشعر به ليس إلا مرضا. رمى الملاءة عنه وقام مخاطبا نفسه. لكل داء دواء وحتما لهذا المرض ما يطهره ويشفيه. لكنه لم يكمل قيامه. نخسته أشواك التنميل فسقط متألما وخرج أنينه من شفته المتدلية كعواء؛ عواء حزين دفع جسده ليرتعد بقشعريرة التعاطف لنفسه ولكل من يسمعه، وخمن أن أمه الآن ستغطي وجهها بكفيها وستبكي لألمه، وفعلا رآها من خلف الجدار تفعل ما خمن تماما، ورأى أخته تنهض لتهدهد الصغيرة التي عادت لبكائها ورأى زوجته تشيح بوجهها بعيدا عن باب غرفة نومهما ورأى أباه يأخذ كأس ماء من الطاولة ويطوح بها تجاه باب الغرفة فتتهشم بصوت زاد من بكاء أمه وابنته.

أحس بقلبه يتكسر ويتفتت مع تهشم الكأس خلف الباب. تذكر أن جريجور سامسا عانى أيضا معاناة شبيهة حين خرج إلى عائلته صباحا ورأته كيف صار حيوانا نجسا، حشرة مدنسة عفنة. والدته أغمي عليها وانطلق أبوه يبكي. أما السكرتير الذي جاء موفدا من مديره ليستفسر منه سبب تغيبه عن العمل فقد قفز مرعوبا وهرب من الشقة قافزا درجات السلم كأن الشياطين تطارده تاركا عصاه التي قام إليها الأب لاحقا وبدأ يهش بها على جريجور المسكين ليعيده إلى غرفته، وفي أثناء ذلك تعرض لأذى جسدي كبير قبل أن يقفل عليه في الغرفة مكوما على الأرضية مصدوما تنزف جراحاته دما.

فكر أنه على الأقل أكثر حظا من جريجور سامسا. فباعتباره موظفا سيبقى راتبه مضمونا لأشهر ريثما يجدون دواء لدائه. كانت المرة الوحيدة التي اعتمد فيها على أبيه هي قبيل تخرجه من معهد المعلمين حيث تدخل أحد معارف الأب القدماء فجاء تعيين الابن داخل حدود طنجة، عكس زملائه الذين رمى بهم الحظ إلى أصقاع الجبال والقرى الباردة التي تنعزل عن العالم الخارجي كل شتاء. الآن سيحتاج للاعتماد على أبيه، مجددا ومرة أخيرة، لرشوة أحد الأطباء ليجهز له شهادة مرضية، دون الكشف عليه، ثم يأخذها إلى مدير المدرسة لتسجيل إجازته المرضية ويبقى محافظا على راتبه الشهري المضمون.

تلك أمنيته هو، وأنا لا أنوي أن أحقق لهذا البطل كل ما يشتهيه. الحكاية تبقى حكايتي. نعم، نعم. يفترض ألا أتدخل في الوقائع وأكتفي بالسرد بعيدا دون أن أحشر نفسي في التفاصيل كلها. لكن لو فكرتم في الأمر ستجدون بأن الخيال يتدخل بضراوة في تشكيل الواقع؛ الحاضر والمستقبل وحتى الماضي. لذلك لن أتحرج من التدخل مباشرة، بين وقت وآخر، لدفع الأحداث نحو مسار معين. مثلا سأزور أحلام مدير المدرسة، الآن قبل أن يستيقظ، وسأستثير دماغه بأحلام تدفع عصبوناته لتشكيل ذكريات زائفة عن ذلك المعلم متجهم الملامح متهدل الكتفين الذي يشمئز منه بسبب إهانته لمهنة التعليم المحترمة بالعمل المسائي الذي يزاوله في السوق. المدير يكره هذا المعلم منذ زمن. كل ما سأفعله هو قدح تلك الكراهية النائمة بمشاهد زائفة تتعلق بالمعلم وزوجة المدير ستدفع المدير للاستيقاظ مذعورا وركوب أمواج غضبه قادما إلى بيت المعلم. لن أحتاج إلى أي تفاصيل أخرى. الغضب سيأتي بالمدير دون أن يسمح له بالتفكير في أي شيء آخر، وبمجرد ما سيرى المسخ الذي صاره المعلم سيبتسم بنشوة وسيتخذ الإجراءات الإدارية لحذف اسم المعلم من سلم الوظيفة العمومية وإيقاف راتبه فورا.

خاطر الشهادة المرضية والراتب المضمون الذي سيبقى متاحا للعائلة سمح لبطلنا بفتح سجلات ذاكرته والولوج إلى ذكريات أحداث الخميس السابق باطمئنان أكبر وحزن أقل، وإن لم تنقص درجة غضبه شيئا.

لم يتوقع أنها ستهوي عليه بصفعة ستسكنها كل مقتها، وستتبعها بشتيمة تنزع عنه شرفه وهي تنتزع منه صندوق الفاكهة وترميه في سيارتها، ثم تعود إليه جارية والغيظ يتطاير شررا من عينيها، فتركله بين ساقيه ركلة انهار على إثرها أرضا يعوي من الألم، وتتبعها بركلة ثانية تصوبها إلى بطنه ثم ثالثة ترسلها إلى جنبه، قبل أن تتوقف لاهثة، واضعة يديها على خصرها، ناظرة إليه مرميا تحت قدميها يئن من الألم والقهر، وتصرخ فيه مجددا: “كيف تجرؤ يا ابن الكلب؟”

توقف الزمن وسكنت الحركة في السوق تماما، إلا من قهقهات مساعدها الذي كان يضحك، ويضحك، ويضحك، ويدفع عربة الخضروات والفواكه خلف سيارة الشرطية.

انحبست الدموع في مقلتيه ومهانة الصفعة تؤلمه أكثر من آلام ركلات الشرطية.

افترش الأرض منغلقا على نفسه ضاما ركبتيه إلى صدره، ينشج دون صوت. هو لم يفعل شيئا سوى مطالبته بثمن الفواكه التي أخذت. ترك دموعه تنحدر ساخنة على وجهه إلى أرضية السوق المتربة، وضحكات الشرطي تتردد في أذنيه في دورة لا منتهية من الصدى، ووعيه يتسرب منه شيئا فشيئا.

مر الوقت بقدر بدا له دهرا، قبل أن يحاول النهوض، متثاقلا. جلس على ركبتيه ونظر إلى رفاقه الباعة الذين خفضوا أعينهم خجلا من عجزهم عن مساعدته. شرنقه اليأس في لحظة مباغتة فكر خلالها بالنهوض والتوجه فورا لشراء ما يكفي من الوقود ليحرق نفسه حيا أمام مبنى البلدية. ثم فكر في والدته وأخته اللتين ستبقيان دون معيل بعده. أقنع نفسه بأن العالم لا يحتاج الآن إلى بوعزيزي آخر، ونهض مثقلا بالمهانة نحو مرحاض المسجد لينظف نفسه ويعود إلى البيت ليكمل تجهيز دروس الأيام الأولى من الدخول المدرسي الجديد.

امتزجت دقات ساعة الحائط عند تمام الثامنة صباحا مع دقات عنيفة على باب الشقة فأفاق من خواطره دامع العينين متسائلا عن هذا الضيف المبكر. رفع عينيه وتجاوز بنظره الجدران مرسلا بصره إلى ما خلف باب الشقة ثم انتفض حين رأى مديره وصرخ بصوت مبحوح مختنق ألا يفتحوا الباب.

جاءت صرخته، التي وصلت إلى الصالة كخوار مبهم، متأخرة بعد أن كان أبوه قد نهض وفتح الباب، هو الذي لم يفعل ذلك طيلة حياته.

طلب المدير رؤية المعلم فاعتذر الأب مؤكدا أن ابنه مريض مرضا معديا وليس من مصلحة أحد رؤيته. أصر المدير واحتد جداله مع الأب واشتدت حدة غضبه ثم دفع الباب وخطى نحو الصالة وتوقف مبهوتا أمام بياض زوجة المعلم. فقط في تلك اللحظة، المتأخرة، انتبه الجميع إلى أن الزوجة الجالسة وسطهم بلباس نومها تبدو شبه عارية، فعوى المعلم ساخطا وقام متغلبا على وخز التنميل، حمل الملاءة، فتح الباب بقوة كادت تخلع مفاصله، اقتحم الصالة ورمى الملاءة على زوجته.

تحول المدير بنظراته المخطوفة نحو الحيوان المشعر المشوه الوجه الذي اقتحم الصالة، وحين تملى في وجهه صرخ. لم يصرخ رعبا. صرخ نشوة وفرحا، واستدار على عقبيه خارجا يهرول.

اعترض الأب طريق المدير راجيا إياه ومستجيرا بكل عزيز لديه ألا يخبر أحدا باللعنة التي نزلت على الابن. نظر المدير باشمئزاز إلى الأب واستدار إلى الابن ورمقه بنظرة انتصار ثم دفع الأب وقفز خارج الشقة.

لم تستوعب الأم شيئا ولا الأخت، في حين ارتسم الذعر على وجه الزوجة وهب الأب واقفا، ومد يده إلى المزهرية. حملها بكلتا يديه وقذفها، بكل ما تحمل نحافته وعصبيته من قوة، إلى صدر ابنه فتطايرت شظاياها وانغرزت في صدره وطرحته أرضا على ظهره. أراد الحيوان داخله أن يصرخ ألما، لكنه قاوم، كما قاوم منذ طفولته ألا يبكي تحت ضربات حزام أبيه. لملم نفسه وانقلب على جنبه وزحف إلى غرفته.

صرخت الزوجة بأنها غير قادرة على التحمل، وجرت نحو المطبخ وعادت بسكين كبيرة، وقبل أن ينتبه أحد كانت قد دخلت غرفتها.

شعَّ الحقد من عينيها وهي توجه السكين إلى زوجها مهددة إياه بألا يقترب منها وفي الوقت نفسه كانت تكدس ملابسها، كيفما اتفق، في حقيبتها، ثم أقفلت الحقيبة ودست جسدها الطويل ذا المفاتن البارزة في جلباب ضيق وجرت حقيبتها إلى الخارج وهي ما تزال تلوح بالسكين.

لم يستطع أحد الاقتراب منها. حاولت أمه تهدئتها فزمجرت في وجهها حتى انكمشت الأم المسكينة، ثم أخيرا ألقت الزوجة على طفلتها المريضة نظرة الخلاص وغادرت الشقة.

لم يحرك الأب ساكنا وإن بدا الامتعاض واضحا على وجهه. التفتت الأخت تجاه الطفلة المنغولية وتركت جفنيها يفرجان عن دمعها المحتبس. أما الزوج فسقط مجددا على الأرض واستند بظهره إلى ركن الغرفة يئن أنينا خافتا. قام الأب وأغلق باب غرفة ابنه، ليحد من الأنين الحيواني الحزين.

لا يذكر متى ندم لأول مرة على زواجه، ولا متى اكتشف أن الزواج فخ اجتماعي يدفعك الجميع إليه دفعا بسادية مفرطة حتى تعم المعاناة التي يخفيها كل من يكتشفها، عن بقية العزاب، إلى أن يتورطوا بدورهم. لكنه على أي حال كان مضطرا للزواج بعد تلك الغلطة الشنيعة التي ارتكبها؛ بعد تلك النبتة الشيطانية التي زُرعت قبل الزواج.

لم يكن حبا. لكن بالتأكيد كان ثمة إعجاب متبادل سمح لهما بالمرور من تلك الفترة بأمان. لم يتخيل يوما أن يفعل ذلك، وأن يقع في ذلك الخطأ. ما يزال حتى اليوم لا يعرف تحديدا ماذا حدث. كان يتعالج من حروق بالغة في يديه وصدره، بسبب انسكاب إبريق الشاي عليه في قاعة المعلمين. وهي كانت ممرضته التي رعته بكل احترافية طيلة أيام في مستشفى محمد الخامس. هل كانت الوحدة، الإحباط، الاكتئاب، الغضب، أم رغبته الخالصة في تدمير نفسه؟ ربما تلك المشاعر المستعرة كلها مجتمعة أرخت بسدول ضبابها على عينيه وهدمت دفاعاته فأسلم نفسه لأحضان تلك المرأة. ناره المتأججة لم يكن لها من حل إلا أن يقذف بركانه حممه. لكنه أحيانا، في لحظات الشك الشيطاني، يفكر أنها سحبته إلى أعماقها تلك الليلة لتمنح نفسها سفينة نجاة بديلة بعد أن تخلى عنها زارع البذرة الحقيقي. ستمر السنوات وسيعود ذلك الشك مجددا، ولن تبقى الأمور بعد ذلك كما كانت أبدًا.

بعد أشهر قليلة ستجهض تلك النبتة، وستدخل فترة اكتئاب ستتركها جثة هامدة. استغرب من نفسه حين لم يحزن لذلك الفقد الذي عدّه خلاصا، لذلك حين تمخض الحمل الثاني عن طفلة مصابة بمتلازمة داون فكر تلقائيا أن الأمر عقاب إلهي لجحوده وشكه في زوجته، التي كاد يتخلى عنها بعد إجهاضها الأول لولا أن غلبت شفقته.

الآن وهو مكوم في الركن يئن بدأ يحس بندم شديد على إبقائه على هذه الزوجة التي كانت أول من تخلى عنه.

لكنها في الحقيقة، فكر، لم تتخلَّ عنه اليوم، بل قبل اليوم بكثير.

في لحظة ما غلبه النوم. أو لعله فقد الوعي تماما وهو مكوم في ركن الغرفة. بقي أفراد الأسرة ملتصقين بأماكنهم طيلة الصباح إلى أن انطلق أذان الظهر من مسجد الحي. انتبهت الأم كأنها أفاقت من سبات عميق. فكرت أنها لم تجهز لعائلتها طعام الغداء، ولا أحد منهم قد أفطر بعد. اتكأت بثقل يديها على مسندي المقعد لتنهض. لم يكتمل نهوضها وتركت نفسها تسقط مجددا واستسلمت لنوبة بكاء جديدة نادبة حظ ابنها المسكين، ومؤكدة، بغليظ الأيمان؛ بالنعمة الشريفة والكعبة الطاهرة، أن جارتهم هي التي سحرت ابنها بعد أن رفض الزواج بابنتها التي يعرف سكان المدينة كلهم أنها امرأة منحلة ترافق رجال المدينة جميعهم.

زمجر الأب في وجهها ونهرها لتصمت، ثم قام وفتح الباب بهدوء وأطل بحذر على الوحش الذي ابتلي به هذا الصباح. عاد وأغلق الباب وتوجه نحو زوجته وابنته. “إنه نائم الآن. دعكما من هذا البكاء وجهزا لنا ما نسد به رمقنا.” وخرج ليصلي صلاة الظهر.

قامت الابنة تواسي أمها، مذكرة إياها أن موضوع ابنة جارتهم قديم له من العمر ثلاث سنوات. لو كانت جارتهم تريد أن تسحر أخاها لفعلت ذلك منذ زمن طويل. توقفت الأم لحظة وأعادت بتصميم. هي زوجته إذن. تلك الأفعى. أنا لم أثق بها من قبل. أخبرتك من قبل أنها حبلت قبل عرسها. إنها ساحرة خدعت أخاك الطيب، ثم حين لم يعد يناسبها مسخته بسحرها لتهرب منه.

يا لإيمان الأمهات. فكرت الابنة وهي تساعد أمها على النهوض لتجهيز لقمة للأب قبل أن يعود من صلاته؛ فلا قدرة لهما على تحمل غضبه، ليس الآن وأخوها في غرفته لا يعلم أحد، إلا الله، ما أصابه.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.