أندريه بيلي وعالمه الإبداعي

0 617

تحسين رزاق عزيز – العراق/روسيا

    أندريه بيلي (اسمه الحقيقي بوغاييف بوريس نيكولايفيتش) (1880 – 1934)، كاتب وشاعر ولساني وفيلسوف ورياضي وناقد؛ ويُعَد من أهم منظِّري الاتجاه الرمزي والحداثة في الأدب الروسي.

    والد أندريه بيلي عالم رياضيات بارز وفيلسوف. ووالدته مهتمة بالموسيقى، وحاولت بكل قوة أنْ تؤثر على تنشئة الطفل فنيّاً بعيداً عن الاتجاه العقلاني الذي فرضه والده، عالِم الرياضيات. كانت العلاقة داخل الأسرة غير ودية تهتز باستمرار بسبب المشاجرات والفضائح التي شهدها بوريا الصغير (أندريه بيلي). وتركت المشاكل العائلية انطباعاً قويًا على الطفل، وهو ما انعكس في عمله، خاصة في روايته الرئيسة «بطرسبورغ».

    كان الصبي مُتَميّزًا، ودرس في مدرسة بوليفانوف الخاصة بموسكو، حيث تجلى حبه للأدب لأول مرة. كان لعائلة آل سولوفيوف الموهوبة، تأثير كبير على الشاب. نشأت آرائه وإبداعاته وتطورت تحت تأثير تعاليم الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف. وكان لفلسفة نيتشه وشوبنهاور والافتتان بالبوذية والتنجيم الدور الأهم في بحثه عن الحقيقة وعن المواقف الجديدة.

    تخرج أندريه بيلي في قسم العلوم الطبيعية في كلية الفيزياء والرياضيات في جامعة موسكو، ثم درس لاحقاً في كلية التاريخ والفيلولوجيا. ومع ذلك، فإن الرياضيات، في رأيه، لم تفسّر الحياة، بل نظمتها فقط، ولم يعمل أبداً في تخصصه. كان مفتوناً بالإبداع.

    استقبل الفلاسفة والرمزيون الأعمال الأولى التي كتبها بحماس، لكن النقاد الأدبيين رفضوها. لقد ابتكر في الأدب نوعاً جديداً سماه «السمفونية» – النثر الإيقاعي. في عام 1902، ولدت «السمفونية» (الثانية، الدرامية). رفضها عامة الناس والنقاد، لكنها أسعدت أتباع المذهب الرمزي.

    في هذا الوقت، كتب بيلي مقالات منهجية: «أشكال الفن»، «في السيمياء»، «الرمزية بوصفها عقيدة عالمية». ثم نُشرت روايته الأولى «الحمامة الفضية»، التي كشفت موضوع العلاقة بين المثقفين وعامة الشعب.

    أكبر عمل سردي فنّي أبدعه أندريه بيلي، الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بالرمزية الروسية، – هو رواية «بطرسبورغ» (كتبها في المدة من عام 1911 إلى عام 1914)، وهي الرواية الأكثر أهمية في هذا الاتجاه. وبفضلها قُدِّرَ له أن يصبح عظيماً وأن يكون له تأثير كبير على الأدب الروسي. في هذا العمل، واصل الكاتب تقاليد بوشكين وغوغول ودوستويفسكي في تصوير مدينة بطرسبورغ.

    تتجسد المدينة كمصير تاريخي يطارد الأبطال ويدمرهم. تجمع الرواية بين الحماسة العالية والمبدأ الكوميدي، ويُكشَف فيها عن سيكولوجية الشخصيات من خلال النبرة الغنائية والمغالاة الفنية الساخرة. يستخدم الكاتب الكتابة الصوتية والكلمات الجديدة التي ابتدعها هو شخصياً، مما جعل النص غامضاً وعصيّاً على الترجمة. ومثّلَ هذا نوعاً من السرد النثري الجديد في الأدب الروسي.

    قبل ثورة أكتوبر 1917، كان الكاتب يعيش في الخارج بشكل أساس، في ألمانيا وسويسرا. وتحت تأثير الآراء الأنثروبولوجية، كتب قصائد ضمّنها في مجموعته الشعرية «النجمة».

    في البداية أعطته ثورة أكتوبر الأمل، فانغمس في الحياة الأدبية: يعمل في المؤسسات السوفيتية الجديدة، ويلقي المحاضرات. وخلال السنوات من 1918 إلى 1921، خاض الكاتب نشاطاً أدبياً عاصفاً، وأنشأ رابطة للكُتّاب أطلق عليها اسم «الرابطة الفلسفية الحرة»، ونشر أيضاً أعماله الأدبية ودرَّس بنشاط الشعراء المبتدئين.

    أثمر نشاط الكاتب: فأصبح أندريه بيلي أكبر شخصية في الأدب الروسي في عصره. بعد الحرب الأهلية، نُشِرَت نتاجاته وصدرَت بطبعات كثيرة، ثم ذهب الشاعر إلى الخارج، إلى ألمانيا. وفي عام 1923 عاد الكاتب إلى روسيا. لكن الشيوعيين بقيادة تروتسكي (في مقال «الأدب والثورة») لم يقبلوا عمل الكاتب.

    توفي أندريه بيلي في 8 يناير 1934 بين أحضان زوجته. كان سبب الوفاة عدة جلطات دماغية ناجمة عن ضربة شمس عادية.

    يُعَد أندريه بيلي عادة شاعرًا في المقام الأول، وهذا صحيح بشكل عام؛ لكن قصائده من حيث الحجم والمعنى أقل من نثره. في الشعر، مارس دائماً التجريب، ولم يفعل أحدٌ أكثر منه في اكتشاف الاحتمالات غير المعروفة حتى الآن للشعر الروسي، خاصة في أشكاله التقليدية. مجموعته الشعرية الأولى مليئة بالترابطات الجرمانية القديمة (في الحبكة أكثر منها في الشكل). في العديد من الصفحات نجد نيتشه برموزه الخاصة بزرادشت، وبيكلين مع القنطور، ولكن هنا تظهر أولى ثمار طبيعته الفكاهية. مجموعة «الرماد» – أكثر مجموعات شعر أندريه بيلي واقعية، وهو الكتاب الأكثر جدية في الوقت نفسه، والنغمة السائدة فيه – اليأس الكئيب والساخر. يحتوي هذا الكتاب على قصيدة «روسيا» (1907)، التي هي من أقوى القصائد من حيث المعنى والشكل.

    نثره – «نثر زخرفي» – هو نص نثري شُكِّلَ وفقاً لمبادئ الشعرية، التي تتلاشى الحبكة فيها في الخلفية، وتبرز الاستعارات والصور والترابطات والإيقاع في المقدمة. لا يتحدد النثر «الزخرفي» بالضرورة بلغة شعرية متفائلة، بل على العكس من ذلك، يمكن أن تكون واقعية بشكل قاطع، وحتى عدوانية ووقحة. الشيء الرئيس فيه هو أنه يلفت انتباه القارئ إلى أصغر التفاصيل: إلى الكلمات وصوتها وإيقاعها. إنه يتعارض بشكل مباشر مع النثر التحليلي لدى تولستوي أو ستندال. كان أعظم فناني الزخرفة الروس نيقولاي غوغول. النثر الزخرفي له اتجاه واضح: الخروج عن نطاق سيطرة الحجم الأكبر، وتحطيم وحدة العمل السردي. ظهر هذا الاتجاه بشكل كامل لدى خلفاء أندريه بيلي جميعهم تقريبًا. لكن في عمل أندريه بيلي نفسه، تتوازن هذه النزعة من خلال هندسة البناء الموسيقي للعمل بأكمله. وقد عبَّرَ عن هذه الهندسة المعمارية الموسيقية باسم السمفونية ذاتها، التي منحها بيلي لأعماله، والتي نفّذها من خلال نظام مدروس جيدًا يتضمن الأفكار المهيمنة والتكرارات وتصعيد النغمة وتخفيضها، وهو تطور موازٍ للتطور المستقل.

   لا جدال في الأدب الروسي على الابتكار الإبداعي لأندريه بيلي. فالمعروف، في الأوساط الأدبية أنَّ جيمس جويس يمثل قمة التميز في الأدب الأوروبي الحديث. وهنا لا أعرف لماذا ذكر بوريس باسترناك وبوريس بيلنياك وغريغوري سانيكوف في نعيهم لبيلي الذي كتبوه في عام 1934 أنّ جيمس جويس تلميذ لأندريه بيلي. صحيح، إنَّ لأسلوب بيلي تأثير مباشر على «النثر الزخرفي»، الذي أصبح في عشرينيات القرن الماضي «الأكثر تأثيراً … في تصوير الثورة»؛ ولكن من غير المحتمل أن يكون جويس، الذي أطلق عليه مؤلفو نعي بيلي «تلميذ بيلي»، قد قرأ رواية «معلمه». ولكن، ربما، حدث ذلك بسبب مقارنة رواية أندريه بيلي «بطرسبورغ» بـرواية جيمس جويس «عوليس» (يوليسيس): كلا الروايتين تصفان حياة مدينة كبيرة، وفي كليهما – السرد غير الخطي، والتجارب مع اللغة (بما في ذلك الصوت والإيقاع)؛ وفي كليهما، تتحقق علاقة «الأب والابن»، وتظهر خيانة الزوجة، ويخصص مكان مهم للهلوسة. كلا النصين يعتمدان بشدة على التقليد الأدبي السابق ومشبعان بالإشارات. يمكنك العثور على أوجه تشابه في التفاصيل: على سبيل المثال، يحب أبولون أبولونوفيتش قراءة صحيفة في «مكان لا يُقارَن بغيره»، أي في مرحاض؛ ويحب ليوبولد بلوم أن يفعل الشيء نفسه.

    بيد أنَّ الاختلافات بين الروايتَين كبيرة للغاية. على سبيل المثال، إذا قام جويس بإعادة إنتاج طبوغرافيا دبلن بدقة في رواية «يوليسيس»، فإن مدينة بيلي «بطرسبورغ» تختلف في نواح كثيرة عن بطرسبورغ الحقيقية. لا يهتم بيلي في رواية «بطرسبورغ» كثيراً بالقضايا المتعلقة بالجنس، والتي ترد في المقدمة في رواية «يوليسيس». أندريه بيلي يعتمد على أسلوب نيقولاي غوغول، ولا يسخر منه؛ جزء كبير من «يوليسيس» – محاكاة ساخرة لكتاب من عصور مختلفة. تقدم النساء في رواية أندريه بيلي حركة المضمون سلبياً؛ بينما لدى جويس مولي بلوم شخصية نشطة مع بلوم وستيفن ديدالوس.

    ومن الجدير بالذكر أنه في تطور أسلوب أندريه بيلي وجيمس جويس المتأخر يمكن للمرء أن يكتشف أوجهاً للتشابه: فالنصان الأخيران لكلا المؤلفَين – رواية «موسكو» ورواية «يقظة آل فينيغان» – هما تجربتان راديكاليتان من الناحيتَين اللسانية والأسلوبية (مع إنَّ رواية جيمس جويس أكثر راديكالية).

    كان لأندريه بيلي تأثير كبير على العديد من الكتّاب السوفيت؛ ويذكر كِتاب أكسفورد «تاريخ الأدب الروسي» إنَّ من بين تلامذة بيلي السوفييت كُتّاب من أمثال يفغيني زامياتين وبوريس بيلنياك وفسيفولود إيفانوف وليونيد ليونوف⁠.

    يكرس الباحثون اليوم دراسات واسعة النطاق لـرواية «بطرسبورغ»، ويضفون عليها تعريفات متنوعة: «الرواية الأسطورة»، «الرواية العظمة». ولابد أنْ نذكر هنا إنَّ أقدم جائزة أدبية مستقلة في روسيا، مُنحت منذ عام 1978، تحمل اسم «جائزة أندريه بيلي».

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.