الهايكو الأصلي والهايكو العربي، الحقيقة والمسخ

بين القالب الأصلي وتحويل الوجهة

0 1٬264

 

نصر سامي

1. الهايكو في أصل وضعه: مفهومه ولوازمه ومواضيعه وضوابطه:

الهايكو نوع من أنواع الشعر الياباني يعتبر عندهم الشكل الأفضل من بين 10 أشكال للشعر الياباني للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، من خلال ألفاظ بسيطة. ويكون ذلك في بيت واحد يتكوّن من 17 مقطعا صوتيّا، (يتكون النظام الصوتـي اللغوي فـي اللغة اليابانية علـى أساس المقاطع الصوتية، فيتكون كل مقطع صوتـي من هذه المقاطع الصوتية عادة من صائت، أو من حرفين أحدهما صامت، والآخر صائت). وتكتب هذه الجملة الواحدة عادة على ثلاثة أسطر (بتوزيع دقيق بحساب 5 في السطر الأول، وسبعة في السطر الثاني، وخمسة في السطر الأخير)

يسمّى شاعر الهايكو حسب قاموس كوجيين الياباني (أفضل قاموس للغة اليابانية) إذا كان يابانيا هايجين، وبـ سيّد الهايكاي إذا كان يكتبه على أنه هواية أو مهنة، ويسمّى سيّد الهايكو إذا كان يكثر من كتابته. يعتبر >باشو< معلّما لهذا الفنّ، ويعتبر >بوسون< و>ماسا أوكا شيكي< و>كوباياشي إسّا< أعمدة هذا الفنّ. وهو فنّ شائع يحتلّ لليوم مكانة متميزة في الأدب الياباني. وتولّدت عنه >الصّورية< وهي حركة شعرية أنجلو أمريكية، ولا ينكر أحد أثره على الأدب الغربي.

يساعد الهايكو على الانتباه إلى العالم من حولنا، ورؤية الأشياء الصغيرة التي غالبا ما نفتقدها، مثل تحليق الفراشة أو سقوط ورقة أو قطرة ندى. وباستخدام الهايكو يمكن أن نستعيد بعض العجائب التي مررنا بها عندما كنّا في سنّ السادسة! أن تعود طفلا، وتنظر إلى العالم بعيني الطفل، ألّا يفاجأك العدم، أن تمثّل في الفراغ الجمال البسيط، أن تنتبه لدورة الزمان المعقّدة، أن تحفظ البسيط والمطلق، أن تبتعد عن خطيئة التأنّق، أن تكون في وصفك عفويا غير متدبّر أو مفكّر، أن تتصرّف مثل طفل.

يقول >شيكي<:

وَبَلٌ في الصيف

المطر يهطل

على رؤوس أسماك الشبوط

يلتقط الشاعر هنا مشهدا غير مألوف، ويعبّر عنه ببساطة تقريرية. يلفت انتباهنا هنا الاهتمام بالطبيعة في حالة من حالاتها المفاجئة، واهتمام الشاعر بتفصيل بسيط وهو هطول المطر على رؤوس أسماك الشبوط بالذات دون سائر المخلوقات! وما يصنع شعرية هذه القطعة يظل عصيّا عن التفسير. ما الذّي قد يلفت قارئا عربيّا مدرّبا متعوّدا على صنوف البليغ إلى سطر شعريّ عار ممّا يشكّل أسسا للشعريّة العربية التقليدية على الأقلّ؟

يقول >بوسون<:

أُصبع البَنَّاء

المجروح

وزهور الآزاليا الحمراء

تلفت انتباهي دون شكّ في هذا السّطر مسألة تقطيعه إلى ثلاث جمل، ولا أكاد أتبيّن أبدا هل تتوفّر فيها بالحقّ المقادير المقطعيّة المطلوبة في جنس الهايكو. وأغلب الظنّ أنّ هذه القطعة لا تستجيب لمقياس المقاطع (ربما بسبب حذلقة المترجم العربي!). فلو صح التقطيع لكانت الجملة الوسطى هي الأطول! فهل أنّ شعراء الهايكو اليابانيين كانوا يتمردون على قواعد البناء الصارمة التّي تشكّل هويّته. فحدّه أنّه يكون 17 مقطعا موزعة كما بيّنا سلفا. مسألة أخرى تجلب الانتباه هي التركيز على إصبع البناء المجروح وعلى زهرة الأضاليا الحمراء دونما توضيح للعلاقة، لكنّ الجملة تستوي أمامنا مشكلة أفقا للرؤية مفتوحا على نظرة طفولية للعالم حيث يكون الإنسان مجرّد امتداد بسيط للطبيعة. ففي عين الصبي سيّان أن يكون الجرح في اليد أو في النبات!

يقول >أونيتسورا<:

تغوص روحي في الماء

 ثم تطفو

مع طائر الغاق.

لا شيء في هذه الجملة متصنّع أو مركّب. تأتي الألفاظ بعفوية، وتشكل صورة شديدة العمق والصفاء. إذ يجعل الشاعر روحه تغوص في الماء، ثمّ تطفو مع طائر الغاق. فيها يمتزج ما هو جسدي مع ما هو روحي، في حركة حياة كونية تتوحّد فيها مكوّنات الوجود. ونلاحظ في جميع القطع السابقة حضور عنصر من عناصر الطبيعة ممّا يدلّ أنّ حضور الطبيعة عبر مختلف فصولها ليس مجرّد عنصر يمكن تعويضه في قصيدة الهايكو بل هو عنصر بنائي لا تكتمل بنية الهايكو إلا بوجوده. إن شاعر الهايكو الجيّد يأخذ الأحاسيس والمشاعر والانطباعات المتدفقة، ويصبها في قالب من سبعة عشر مقطعا. يمتزج فيها ما هو عفوي مع ما هو آني، وينفتح الجسدي على الروحي، وتدلّ على وحدة الوجود ولو في لقطة معهودة لا نتأملها عادة. يدعونا الهايكو إلى اليقظة وتأمّل العادي الذي يتسرب من حياتنا.

وهذا مثال آخر، يقول >باشو<:

صفصاف أخضر

تتقاطر أغصانه على الطمي

أثناء الجزر

تؤكّد هذه القطعة على المسألة السابقة وهي أنّ من مقومات الهايكو أن يتضمّن دلالة على موسم من المواسم الأربعة للطقس في اليابان. وأن تعكس بيئة اليابان الغنية بحيواناتها ونباتاتها ومعالمها، وعليها أن تشير إلى غنى الحضارة اليابانية في مختلف حالاتها. وباشو هنا يقتنص مشهدا موسميا حيث يكون الصفصاف أخضر، وأغصانه تتقاطر على الطمي أثناء الجزر. وهي لقطة عادية تتكرّر منذ الأزل وقد لا تلمحها العين لشدّة تكررها. ما الطريف الذي تسجّله عين الهايكويّ هنا؟ ما الذي قد يغري قارئا عربيّا ليتذوّق هذا السطر الشعريّ؟ هل أعجبنا به لأنه يتضمّن تجربة فردية مهمّة؟ هل لأنه بسيط وغير متعب ولا يتطلّب ثقافة؟ أم هل لأنه يعكس وجهة نظر متقشفة لغويا وبلاغيا عن العالم؟ أم لأنّه يلخّص الحياة نفسها في تكرارها الناعم!

يقول >كوباياشي إسا<:

سُئل  (عن) عمره

فرفع يده

ملابس الصيف

قرأت وأعدت القراءة مرارا، فبدت لي الأسطر بلا دلالة، وتفتقد تماما لمنطق يجمعها، ثم إن بنية ضمائرها غير واضحة. لكن حين نفكّر أنّ الرؤية هي لطفل عمره لا يتجاوز السادسة، فإن البناء المقطعي 5/ 7/ 5 يصبح إمارات على وقت الاحتفال حسب مراسيم >شيشتي- جو- سان< والأرقام هي الأعمار التي يحتفل فيها بصحة الأطفال وسلامتهم في اليابان. وكلمة ملابس الصيف المسقطة تركيبيا في النص العربي هي أيضا وفاء لمسألة الفصول حيث تدل على عادة تخزين ملابس الشتاء في الشهر الرابع من السنة. إنّ هذه القطعة سالفة الذكر تعتبر نموذجا للهايكو الأصلي وذلك لأنها تضمّ أحد شروط الهايكو وهو إدراج >الكيغو< في السطر. أي وضع كلمة تدل على الموسم وجدير بالذكر أنّ مواسم اليابان هي الربيع والصيف والخريف والشتاء. ويقسّم الهايكويّون كل موسم إلى ثلاثة أقسام (بداية، منتصف، نهاية). وللهايكو الكثير من التقنيات ذكرها “جمال مصطفى”:

1تقنية ماذا؟ متى؟ اين؟:

غصن أجرد (أين)/غراب  (ماذا)/ عتمة الخريف (متى)

2- تقنية المجاورة والمقاربة: وهذه تقنية معروفة وشائعة يلجأ فيها الشاعر الى اختيار فلقتي الهايكو المختلفتين ظاهرا ، المتناغمتين باطنا ، ولابد هنا من رابط دلالي يجمع الطرفين بخفاء مثال:
ضباب تشرين/ عمتي العجوز/ تسأل من أنا
إذ تجمع ضبابية الرؤيا بين سطري الهايكو: ضباب تشرين والعمة العجوز

3- تقنية التفتح التدريجي: وهي تقنية شائعة حيث تكون الضربة الأخيرة هي تمام الفكرة وذروتها ، لأنها تعطي لما قبلها قيمة في بنية الهايكو ، وهذه القصيدة لباشو مثال يمهد فيه كل سطر لما بعده :
على جرس المعبد/ تنام/ فراشة

4- تقنية الانتقال من العام الى الخاص ، أو العكس أو من الكلي الى الجزئي أو العكس مثال:
السماءُ كلُّها/ في حقل الزهور الفسيح/ زهرة خزامى

فزهرة الخزامى زرقاء في العادة تميل الى البنفسجي قليلا ومن ينظر لهذه الحقول يظنها لزرقتها قطعة من السماء.
5- تقنية التلغيز: وهي من التقنيات التي يتم حل لغزها في السطر الثالث ، والأفضل ان تكون الكلمة الأخيرة في الهايكو هي الجواب أو حل اللغز مثال:
الزبون يشتري لغيره/ البائع يطرد فكرة الاحتفاظ بواحدة/ محل بيع الشواهد

6- تقنية اللعب على الكلمات: وهذه التقنية يعرفها الشعراء جميعا بحكم التصاقها باللغة التي يكتبون بها واللعب هنا يتخذ أحيانا شكل التورية أو الاستفادة من الجناس أو ما يفهم منه أصحاب تلك اللغة شيئا خاصا غير مصرّح به ، أعني ان الفاظ الهايكو الخارجية تقول شيئا والمتلقي يفهم شيئا آخر ، ويمكن تقريب الصورة بما يقصده العراقيون حين يُسألون عن سعر مادة ما فيجيبون: (دفتر) ويقصدون مئة ورقة ، فئة الورقة مئة دولار

7- تقنية التضاد

8- تقنية التناقض

9- تقنية المشهد

10- تقنية التعليق على شيء
ويمكن الجمع بين تقنيتين

موجز ما أسلفت قوله بسيط. وهو أن فنّ الهايكو في أصل وضعه من حيث المفهوم واللوازم والمواضيع والضوابط هو فنّ عريق وضارب في القدم (أقدم من جميع الأشكال الشعرية العربية تاريخيا)، وهو مستقرّ ومتميّز عن غيره من الأنماط العشرة في الشعر الياباني. وهو وليد حضارة تهتمّ بالتفاصيل وتحتفي بالحلول في عمق الوجود وما لغتها إلا محاولة تمثيل للحركة الأصلية المتجذرة في النفس البشرية وفي الطبيعة بعناصرها وفصولها.  لذلك يهتم الهايكو بالجوهر لا بالعرض، ويعتمد التوازن الدقيق بين المقاطع، والتناغم الداخلي وليس القافية والجرس الخارجي، وهو جنس يجذّر الطفولة والصفاء والعمر المبكّر حيث تكون النظرة طبيعيّة وحيث تكون الروح مطلقة.

نصر سامي

2. الهايكو العربي (من خلال نماذج): مسخ الأصل (كلّ نصّ قصير هو هايكو) من التعديل إلى التوسيع إلى المسخ:

لم يعرف الهايكو في الثقافة العربية إلا في تاريخ متقدّم، ثم بدأ المصطلح يتردد باحتشام مع ظهور ترجمات لبعض قصائد الهايكو عبر لغات وسيطة كالإنجليزية، ثم ظهرت بعض الترجمات عن اليابانية. ولا نعرف من النقاد من نظّر للهايكو باعتباره جنسا شعريا عربيا أو حتى من كتب عنه فصولا في كتب نقدية عربية مؤسّسة، وهو كممارسة يبقى نشاطا خارج التفاعل النقدي الأكاديمي، ولم يستطع حتى الآن الظهور بصفته تلك باعتباره مدرسة شعرية عربية أو شكلا شعريا عربيا. ولكنّ البعض يدرجه عن غير حق ضمن قصيدة النثر. وبقي الهايكو العربي ممارسة غير منضبطة، لا تخضع لتنظيرات مخصوصة، وأغلب نماذجها الجيدة لا تعتبر هايكو إذا نظرنا إليها من جهة الضوابط الأصلية التي بيناها سابقا. وذلك لأنّ الهايكويّ العربي أتى للهايكو من باب الاستسهال، ومن باب التقليعة الشعرية، ومن الباب الذّي فتحته الأنترنت. وأمام زحف الهايكويين أصبح هناك ما يمكن أن نسمّيه قصيدة نثر خصوصية تشبه الهايكو وليست بهايكو. ذلك أنّ الهايكويّ العربي مغرم بالتبديل والتغيير والتنقيص والتطوير. فكلّ نصّ دعك من الضوابط هو هايكو مادام أصحابنا يسمونه هايكو ويتذوقونه! وفي الحقيقة فإنّ تربة الأدب العربي لا تحتاج الهايكو كجنس أبدا، ولو احتاجته لاستعارته من قديم الزمان مثلما استعارت مصطلحي:

الطراغوذيا: وسمتها صناعة المديح (التراجيديا- المأساة La tragédie)
القوموذيا: وسمتها صناعة الهجاء (الكوميديا- الملهاة La comédie)

لقد عمد أغلب ممارسي الهايكو إلى اعتماد الاسم دون الخصائص والمقوّمات والشكل وما به يكون الخطاب هايكو. ودأبوا تحت يافطة الهايكو أن يضعوا كلّ قطعة لا تقلّ عن السطر ولا تتجاوز التسعة أسطر، دون أيّ اهتمام بمسألة العدد المفروض في فن الهايكو ولا بمسألة المقطعية ولا بجميع مسائل الطبيعة اللغوية البسيطة التي تشبه لغة الطفل.

لا يبدو الهايكويّ العربي مهتمّا بمسألة الجنس من حيث هو شكل خصوصيّ استوجبته حضارة معينة لتقطير معرفتها ورؤيتها للوجود، كما استقطر العرب جوهر وجودهم وكونهم الشعري في البناء الثلاثي الذي استلزمته الإقامة في الوجود. والذي عبّرت عنه اللغة بما استطاعته من قوّة وعنفوان في يد فتى جاهليّ عصبي تملك الوجود بقوّته وأخلاقه. تلك الرؤية لم تكن خيارا، بل استلزاما استعاريا فرضته طبيعة علائق العربي بزمانه ومكانه. لكنّ الهايكو يتنزّل ضمن رؤية مختلفة تماما، لا علاقة لها بالفتوّة والأغراض والعقل، بل هو صدى شفيف ناعم للإنسان قبل أن يصبح شريرا وجبانا وخوافا وسارقا ورعديدا وسجانا وقاتلا. هي رؤية للوجود قبل أن توجد الحسابات، حيث العالم طين، وحيث الكلمات غيوم. وهكذا خرج النص الهايكوي العربي من البساطة إلى التعقد، ومن رؤية الطفل إلى رؤية البالغ، ومن الإنساني إلى الإيديولوجي، وترك شعراء الهايكو القواعد الأصلية، وانصرفوا لكتابة نصوص (قطع شعريّة) دون أبنية، ودون بحور شعرية، ومقفّاة في أكثر نماذجها، ولا تعتمد التفعيلة بوعي، ولا تحتكم من حيث المواضيع إلى رؤية موحدة قائمة على التقاط اللحظة والتفاصيل وبساطة المعالجة الفنية، بل أن بعض النماذج مغرقة في التزيين ولزوم ما لا يلزم.

يقول >عز الدين المناصرة< في قصيدته هايكو- تانغا:

هايكو :
يا باب ديرنا السميكْ
الهاربون خلف صخرك السميكْ
افتحْ لنا نافذةً ﻓﻲ الروح.
تانكا :
أجاب شيخٌ يحمل الفانوس ﻓﻲ يديهْ
يوزع الشَمْعاتْ
على نِثارِ دمنا المَسْفوكْ
وحين سلَّمنا عليهْ
بكى … واصفرَّ لونُهُ … وماتْ

         هذه التوقيعة الشعرية التي تحمل على فنّ الهايكو هي في الحقيقة نصّ شعريّ لا يمتّ بصلة للهايكو لا من حيث المقوّمات ولا من حيث الرؤية ولا من حيث البناء. وواضح فيه أثر الصنعة (السميك، السميك، المسفوك). ونفس الشيء في قصيدته الأشهر >توقيعات< التي تتكون من عشرة قطع >هايكاوية< متتالية، يقول:

  1. كانت جرَّتُها بين يديها، حين قلبتُ الجَرَّة
    صفراء كتفّاحة بيضاء … ومُحْمرَّة
    أشهد، أنّي راودتُ البنت … وكنتُ سفيها
    قلت ﻟﻬﺎ: مرّة!!
    وحياتكِ: مرّة
    وأموتُ سفيها
    لكنْ رفضتْ بعنادٍ … كأبيها.
  2. أهدته حبيبتُهُ دَعْبوباً من خبز الطابونْ
    ظلَّ يخبئه ﻓﻲ العُبِّ شهوراً بلياليها
    ظل يغنّي – حين تمرّ – لقامتها السمحاء
    لضفائرها الملويّةِ كالأفعى
    ظلَّ يغنّي سرخسها وسواقيها
    حتى رفضته وصاحت: مجنونْ
    صار رغيفُ الخبز الناشفِ ﻓﻲ الحفرةِ زيتوناً،
    يُغريني أو يُغرْيها .
    ظلّ يزور الحفرة أياماً
    وشهوراً … بلياليها.
    يبكيه … ويبكيها.
  3. يتعفّر عنبُ القلب صباحاً بكآبته كالعادةِ،
    عند رحيل الغيمة ﻓﻲ مرجِ حنينْ
    يتغبّر ظُهراً شجر التين
    ومساءً تندلقُ العتمةُ فوق وسادةِ تشرينْ
    أسمع همهمةَ الرغباتْ
    ﻓﻲ عِليّينْ
    وصهيلَ سواقيها ﻓﻲ الحارات.
    تطلبني للثأر وأنت صريع اللذَّاتْ
    أسمع دمدمةً تتوالى ﻓﻲ جولاتْ
    ﺛﻢ تموت السيّدة الفضيّة
    مثل قرنفلةٍ مَرْخيَّة
    تلقاها طحالبَ مرميّة
    تتلفّع بالصمت وبالزيتونْ
    ﻓﻲ أرجاء العِليَّةْ
    – لكنْ قُلْ ﻟﻲ يا هذا:
    بعد غبار دمويٍّ من طينْ
    كيف يكون القمر نقيّاً ﻓﻲ تشرينْ!!!
  4. خَبّئْ أشعاركَ لليوم الفاترْ
    خَبّئْ بعض رصاصاتِكَ ﻓﻲ الوعر البدويْ
    خَبّئْ قرشك للأيام الصعبة
    خَبّئْ قلبك لامرأةٍ من زُوّان بلادكْ
    من قال بأنك تحصد دوماً زوّانْ!!!
    أغلبُ نسوان بلادي قمحٌ فتّان.
    اسألْ – إن كنت تُشككني – جدّي كنعانْ
    يروي أشعاراً من رمانٍ فوق سفينتهِ،
    ﻓﻲ البحر الغادرْ
    خَبّئْ أفراحك للصوت الآتي
    من شادرِ عبد القادرْ
    خَبّئْ فحماتكَ لينايْر.!!!
  5. كنتُ خجولا، أكرهُ قرقعةَ الأضواء
    قالوا: يتلفَّعُ بالصمت وبالحَيْرةِ
    حين قهرتُ النجم الساطع ﻓﻲ أرجاء الحِيْرة
    قالوا: يتشعبط جبلاً،
    من أجل مواجهةٍ،
    دون ذخيرة.
    قال الراوي: يا سادة هذي الأنحاء
    لولا الغيرة … لولا الغيرة
    ما حبلتْ – ﻓﻲ هذا الليل – أميرة!!!
  6. دَفَنَتْهُ اليومَ صباحاً،
    وضعتْ شجرَ الغار على حجر القبرْ.
    ظُهْراً،
    كانت تتكحّلُ،
    أو ﻓﻲ أقصى الحالات – مع الفجرْ
    لعريسٍ … واعَدَها قرب النهرْ.!!!
  7. سافر عكّاويٌّ من غرفة نومهْ
    فوق ظهور الخيل ﺇﻟﻰ الشُرْفَةْ
    حَلَفَ بغربتهِ السوداء
    وبكى: يا غرفة نومي
    ما أطولَ أيّام الشُرْفَةْ
    ما أبعد قلب الغرفة!!!
  8. طَخَّ خليليٌّ جَسَدَ البحر الهالكْ
    بِرصاصات الغيرةْ
    هل تدري: مَنْ غضبَ لذلكْ؟!!
    هل تدري!!
    – طبعاً: أهل الطيرةْ.
  9. فجأةً، فجأةً، فجأةً …
    ظَهَرتْ طائراتُ العدوِّ بحضن الجبلْ
    فقال الخليلي ﻟﻬﺎ … ﻓﻲ خَجَلْ:
    يا امرأةْ
    طائراتُ العدوّ ترانا
    فكُفّي عن الثرثرةْ
    خذي هيئة الإنبطاحْ
    – فقالتْ: أما تستحي يا رَجُلْ!!!
  10. السماءُ التي لا تنحني
    الأرض التي لا تنكسر
    البحر الذي يُغويني
    هذا هو الفلسطيني
    هذا هو الفلسطيني..

تتلخّص في هذا النصّ كل صور الخطأ القصديّ الذي شاع لدى ممارسي الهايكو العربي حتّى أصبح حقيقة. وهو ترك القالب ولوازمه الشكلية والمضمونية والمرور إلى التعديل الجزئي أو الكلي،  ثمّ التوسيع  وصولا إلى المسخ (أي ضياع جميع العلامات المحددة للجنس) مع بقاء التسمية! فما كتبه المناصرة في الحقيقة هو قصيدة فلسطينية تشبه سائر الشعر الفلسطيني لها ما لها وعليها ما عليها وكونه سماها هايكو فإنّ هذه التسميّة لن ترفع عنها الحرج ولن تجعلها فعلا سبّاقا وتجديديا. بل تبقى محاولة بسيطة لتوسيع فكرة الهايكو غير القابل للتوسيع، بل لعلها تصبح مسخا لهوية فنّ مستقرّ وغير قابل للتبادل أو الأخذ.

وجدير بالذكر أن نذكّر هنا بأنّ لا أحد من الشعراء العرب القدامى ولا الروّاد قد كتب شعر الهايكو. فلم يكتبه لا السياب ولا أدونيس ولا سعدي ولا عبد الرزاق عبد الواحد ولا النواب ولا بلند الحيدري ومن تونس لم يكتبه حافظ محفوظ (دواوينه ملأى بالقصائد القصيرة)، ولا عادل المعيزي (إبغرامات) ولا مجدي بن عيسى ولا أنا (رباعيات)، لكنّنا لا نعدم وجود نماذج شعرية تشبه الهايكو لدى كل هؤلاء، وخصوصا لدى منصف المزغني في >حبات< لكنّه لم يطلق عليها اسم هايكو لوعيه العميق بهذا التغاير.

ويعود السبب في ذلك في رأيي إلى عدم حاجة البيئة الثقافية العربية إلى هذا القالب. فهناك في الشعر العربي قوالب كثيرة درج العرب على استعمالها مثل القطعة وهي ما دون الأبيات التسعة وصولا إلى البيت أو البيتين. (نستدلّ هنا بالمختارات الشعرية التي أعدها أدونيس في بعض المجلدات حيث اختار قطعا لا تتجاوز البيت أو البيتين)

هناك مسألة أخيرة أحبّ أن أشير إليها تتعلق باختيار الهايكو شكلا للتعبير الحداثي أو كتابته باعتباره تقليعة تجديدية من طرف بعض الشعراء والحال أنّ الهايكو يعتبر من أقدم الأشكال الشعرية المرتبطة بالأصالة والتقليد والثبات في الثقافة اليابانية. فكيف يكون الجنس الأقدم وسيلة الشاعر العربي الحديث لإنتاج حداثته؟ ورغم ذلك فالهايكو العربي يبقى بالنظر إلى التراكم الحاصل مسألة تستحق النظر النقدي الجدي من جهة بنياته في شكله العربي وقضاياه وخصوصا من جهة قدرته على دفع الحوار الحضاري مع الثقافة اليابانية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.