الكاتب الجيد متلصص جيد

عبد الوهاب أبو زيد -السعودية

مع كل كتاب من كتب حسن مدن موعد مع المتعة، والمعرفة التي يقربها من القارئ ولا يتعالى بها عليه. المتعة المتأتية من أسلوب كتابته الصافي والشفيف الهادئ كماء النهر؛ والمعرفة التي مبعثها ثقافته العميقة، وتأملاته الرصينة، وقراءاته المتنوعة، وتجاربه ومشاهداته الحياتية المتنوعة.

لمن قرأ كتبه السابقة “الكتابة بحبر أسود” و”ترميم الذاكرة” و”للأشياء أوانها“، فإن الأمر لا يختلف مع كتابه الجديد “يوميات التلصص” – الصادر مؤخراً عن دار مسعى في 297 صفحة – الذي يلملم هو الآخر كما أفترض، شأن معظم كتبه الأخرى، شتات مجموعة كبيرة من مقالاته التي توزعت على ثلاثة أقسام هي معايشات ووجوه وأماكن.

في مقدمة الكتاب القصيرة والمركزة، يشير الكاتب إلى عدد من الأفكار المهمة ذات الصلة بالكاتب والكتابة، فيما يتعلق بما يُؤْثِر أن يسميه “التلصص”، إذ أن الكاتب الجيد، كما يرى ولا نملك إلا أن نتفق معه في ذلك، “مراقب بامتياز، أو متلصص يلتقط أفكار كتابته من مراقبة ما يراه وما يدور حوله، ومما يسمعه أو يقرأه”، لأن “المادة الخام للإبداع على أنواعه، خاصة الكتابة، هي تلك المستقاة من المراقبة”. فالكاتب الجيد، إذن، مراقب ومتلصص جيد في إطار ما يراه ويسمعه ويقرؤه.

تندرج مقالات الكتاب في سياق اليوميات ذات البعد الذاتي التي يتحدث فيها الكاتب عن تجارب حياتية ذات صلة ومساس قويين بحياته الشخصية، وأفكاره وهواجسه الخاصة. إن كان الحديث عن أشياء وتجارب عايشها، أو شخصيات عرفها، أو أماكن زارها وسجل انطباعاته عنها؛ فالمعوّل هنا على ما تركته كل تلك الأشياء والشخوص والأماكن في نفسه من أثر، وطريقته في التعبير عن كل ذلك، بأسلوبه الخاص وبصمته الكتابية المميزة التي لا تكاد تُخطِئها العين.

يوميات الكتاب، أو مقالاته بأقسامه الثلاثة، المشار إليها أعلاه ممتعة ومشوقة في أغلبها، غير أن قدرًا أكبر من المتعة  تتبع خطى الكاتب، وهو يتنقل بين الأماكن والمدن، في القسم الثالث من الكتاب (أماكن)؛ حيث ينجح إلى حد بعيد في الأخذ بيد القارئ عبر سطور الكتاب في رحلة من مدينة إلى أخرى، مستجليًا ملامح أمكنتها ومبانيها ومعمارها، ومقتربًا من قاطنيها وسكانها الذين يتجسدون ويدنون محلقين على أجنحة الكلمات والجُمل، التي يحسن الكاتب صوغها بمهارة واقتدار دون أن يُشعِر القارئ (أو يَشعُر القارئ)  بثقل  التكلف أو فجاجة الصنعة.