شعرنة المفاهيم في سرديات هادي رسول[1]

0 999

علي مكي الشيخ – السعودية

بالكثير من القلق المعرفي، وقليل من المصالحة، يستعيد هادي رسول شريط الذاكرة الأولى في مشروعه السردي، حيث المكان الذي اتسع به الخيال والتداعي والتشخيص ليصبح مكانة لها وقعها على صفحات الإبداع. كان هادي يراقب ظل الوقت ليسأل الليل عند لطائف الضوء الذي يألفه كالحلم والذي يسف العمر تيها شارداً على مارد النسيان.

يقول الشاعر والأديب بول شاوول:

“لعبة الكتابة هي لعبة البدايات وكذلك لعبة النهايات. فلنقل إنها أدوات بحث عن الهويات المتراكمة، أو المستبقة أو المتضاربة أو المتحولة، أو ليست كلُّ كتابة سيرة؟ هنا السيرة، مساكن مهجورة، بمواصفات مخطورة، أو فائضة أو خبيئة”[2]

يؤكد هادي في سرديته على مفاهيم المثاقفة، وهو مشغول برص الأحداث ليصبح العملُ أوسع مِنْ حكايا تقال أو ذكريات تُستعاد؛ يقول عن الذاكرة:

– ” يموت الإنسان حين يكون بلا ذاكرة ”

– ” الذاكرة التي لن تكون إِرثًا تتناقله الأجيال المتعاقبة، لأنها بلا جسدٍ حي، وبلا أثر يدل عليها .. أصبحت ذاكرة عدمية بامتياز والإنسان المفرَّغُ من ذاكرته هو إنسان بلا هُوية.”

وَيُعرّف المكان على طريقته:

– “المكان امتداد روحي لا يأبه بالحركة الطبيعية، حين تصبح الأرواحُ متسعًا لزمنه الذي انقضى كعمر، ولم ينقضِ كإحساس داخلي”

– “المكان الذي يسكننا حركة لا محدودة، تعمل بضجيجها اللامتناهي”

– “المكان لا يكون مكانا إلا بعلاقته مع البشر ، وحين لا يكون بشرًا لا يعود للمكان قيمة ، ولا يكون مكانًا”

– “المكان مكّون إنساني بالدرجة الأولى”

– “المكان والزمان في المفهوم الإنشتايني كلاهما نسيجٌ واحدٌ ملتحمان مع بعضهما ولا يمكن أن ينفصلا، وهما مكون وجودي واحد”

وحين يمسد سطح بيتهم الصغير، ويرتب أجزاء ذاكرته عليه يُعَرِّفُ لنا السطح قائلاً:

– “السطح مدرسة التأمل القروي، التي علمتنا حروف الأمل، والتطلع للمستقبل”

– “السطح العتبة الأولى التي تهبك إدراك أنَّ هذه الأرض قطعة واحدة ”

– “لأن السطح فسحة وجودية وليست لوثةً سياسية”

وبين مسافةِ كلِّ نافذةٍ، يقفُ هادي في استراحةٍ ليترشف بعض مذاق الخيال غامسًا الأرق في قهوة الأبد، ليدخل بعدها إلى دهاليز الذاكرة، وعند العتمة بالتحديد ليصوغ لها تعريفًا:

 – “العتمة مختبر الروح، فيها تتشكل الذات، ويعجن طين البشرية”

– “العتمة مرآة الوجود التي تهبك رؤية دواخلك، واكتشاف ذاتك”

– “العتمة ضوءٌ أسود، لم تهتد إليه الدراسات البحثية في مختبرات الفيزياء، والأطياف الذرية”

وهناك الكثير من الاشتغال على تقعيد المفاهيم برؤيته الشاعرة كتعريفه لـ “البحر، السؤال، الحكمة، الحزن، الدهشة، الهاتف”؛ فنجده عملًا يجمع بين وظائف عدة بين الإبلاغ والإمتاع في ثنائيةٍ مدهشة وحرفيةٍ راقية، وهو ما يشتغل عليه كلُّ مَنْ نضجت تجربته وامتد منجزه.

ونستطيع القول إنّ هادي نجح في شعرنة المفاهيم، ووضع ببراعةٍ حاذقة رؤيته الإبداعية للمفاهيم المشعرنة؛ وهي مِنْ أهم تقنيات هذا العمل السردي الجميل، كما أنه اشتغل على عدة رؤى لخلق لحظةٍ جماليةٍ لا يهتدي لها إلا مَنْ أوتي إلهامًا مِنْ أثر الرسول.

ومما يكمل هذه اللوحة، وهذا المنحى في الاشتغال على شعرنة المفاهيم، هو اتكاؤه على رفد العمل بحقن من التعالقات النصية، عبر مساقات متنوعة، وأبرزها تلك العتبات التي يصدر بها بعض المفاصل والعناوين؛ فقبل أن يبدأ في حكايا السرد، صَدَّرَ المجموعة بكلمات لبعض المفكرين والمبدعين: عبارة لفوزي كريم في تعريفه للماضي وإبراهيم الكوني وانطباع الذاكرة، وكشف معنى السردية الناجحة لـكارلوس زافون، وفي إبراز قيمة العمل الناجح لفرناندوبسوا، وأخيرًا يوضح من هو الشاعر على لسان تي إس إليوت. هذه العتبات لها دلالتها التي تلقي بظلالها على روح العمل، ومكنة الشاعر؛ حيث أنها تشي بعملٍ متنوع تدل على جودة الاختيار وحسن الاقتباس مما يذكرنا بقول الشاعر:

                        قد عرفناك باختيارك مذ     كان دليلاً على اللبيب اختبارُه

وهي إشارة إلى أننا أمام مبدعٍ قارئٍ ومثقفٍ واعٍ يجيد براعة الاختيار بسلاسة واقتدار. هذا يجرنا لطرح تساؤلٍ مشروع؛ هو لماذا يعمد الكاتب إلى اقتباس كلمات وعبارات الآخرين؟! هل ليدعم رأيه؟ّ! وهل يبرر ما سيقومُ به؟! أم هل يعطي لنفسه الثقة الكافية في خوض مغامرته النصية؟! ولعلها تساؤلات مفتوحة للقارئ الضمني داخل العمل ذاته.

هادي رسول شاء لسردياته أن تنتهي حين يبدأ العدم خارج الذاكرة. يباغت قارئه في كل مرّةٍ بعملٍ مُبهر مستفزٍّ لذائقته؛ يراوغ أفق التوقع لديه؛ لا يستقر كما يقول الأديب والناقد الكبير علي جعفر العلاق في حديثه عن اللغة الشعرية: “لا بد أن تفاجئ القارئ برهافةٍ ورشاقة، تهدم نفسها في ذاكرة القارئ باستمرار، أي أنها متمرِّدة على نمطيتها التعبيربة”[3]

و”نداء على حافة الأبدية” رحلةٌ لاكتشاف المجهول، وتوسيع دائرة القلق الطفولي الممتدة بفاعلية كونية، ولغوية تحاور ذاتها مِنْ خلال الفرد المعبر عن وعيه الجمعي؛ فالمبدع هو مَنْ يختبر حاسةَ الجرأة لديه، مانحًا عمله الفرادة بكلِّ عنفوانها. ومِنْ تلك النماذج الشعرية التي تتجلى فيها هذه الرؤية، أذكر الشاعر الجميل محمد أبو عبد الله في نصه ” نبي الشعر ” وجميل أن تكون أبياته هي مسك الختام هنا:

أتيتُ ورحلتـــــي حبلــى بمائــي

ألملمُ مـــا تســـاقط مِــنْ عنــائي

وأحمـــلُ خلف عاطفتي نبــــيًا

تحــرر  مِنْ  يقيــنِ   الأنبياءِ

يقايضُ في القصيدة كلَّ وحي

يُغرر بي ويكشف لي غطائي

يُغرر بي ويكشف لي غطائي

إحالات:

[1] – نداء على حافة الأبدية – هادي رسول – دار مدارك ط1 – 2020م

[2]– على صهوة الكلام – ص9 – عبد الإله بلقزيز – منتدى المعارف – بيروت ط1 – 2016م .

[3] – الاعمال الشعرية – المؤسسة العربية للدراسات – بيروت – ط1 – 1998م

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.