الملتقي الجمالي بين الممثل والشخصية.

0 696

سعاد خليل – ليبيا

كما هو معروف أن علم الجمال يؤكد على تعددية العلاقات وتوالدها المستمر والمعقد بين الثنائيات المؤسسة على الفهم والذوق الجمالي المتواتر جدليا، ذلك لأن المبدع يضيف دائما العنصر الجمالي إلى الفن، ومن هذه الاضافات تتولد التجربة الجمالية، هذه التجربة لا يحدها سياج اسطوري أو سحري، لأن العصر الحديث لا يركن إلى الاحلام أو الاساطير وحدها بل يركن إلى تفحص التجربة الجمالية وفق شرعية تفضح عما يختفي في باطنها من أحاسيس ومشاعر. وعبر الصحف تتحدد الثنائيات المتواترة حتى تقدم للعلم تفسيرا نطقيا محدد عن ماهية الجمال.

من أهم الثنائيات التي يشتمل عليها فن المسرح ثنائية الممثل والشخصية، فالممثل يبذل جهدا كبيرا في سبيل تجسيد شخصية متخيلة وهذا الجهد يستند في بنيته إلى ارادة التقمص، أو المحاكاة، وهما مظهران من مظاهر تلك الارادة. إن الجهد الذي يبذله الممثل في هذا التقمص أو المحاكاة أو تجسيد أو تعبير عن شخصية ما، فهو يعتبر جهد جمالي معزز بالإرادة سواء كان واعيا لذلك أو غير واع..

في هذا المقال سنستعين بجزء من دراسة كتبها الدكتور عبد الصاحب نعمة مرعي.

إن الممثل وهو يوهم نفسه بأن ما يجسده هو شخصية ثانية تنتزع من نفسه نحو الولادة والحياة، إنما يكذب كذبا فاضلا على راي افلاطون. ذلك لأن نمط العلاقة بن الممثل والشخصية من حيث قيمتها الجمالية تذهب إلى جوهر الموضوع (ممثل وشخصية) بجميع اشكالاته الجمالية، والمفاهيمية علاقة قابلة للتحويل والتصعيد (الاستاطيقي) فكل ممثل اثناء الاداء علي خشبة المسرح هو في صراع دائم مستمر ومتصاعد مع نقيضه الذاتي في لحظة التخطي والنزاع نحو الكينونة الثانية، نقيضه المفترض المتخيل الشخصية. وهذه اللحظة لا يمكن اعادتها أو تعويضها بسبب قوانينها الداخلية الانفجارية المتولدة زمانيا على الدوام.

من الناحية العلمية (التجريبية) يمكن عزل الممثل عن الشخصية التي يمثلها والاحساس بها بمعزل عن شخصية اخري نفسه، وذلك لأن شخصية هي شخصيات مفترضة ومصعدة جماليا عن طريق التباعد والابدال أو التحويل، أو الاعلاء النفسي عن طريق (الفعل).

أما من الناحية الإنسانية، فيبدو أن أمر الفصل أو العزل بين الممثل والشخصية تكتنهه الكثير من الصعوبات، ذلك لأن اية نظرة ميكانيكية أو الية لجدل العلاقة الانسانية بين الممثل والشخصية التي يمثلها تسفيل جمالي لا مبرر له ايضا.. ومن هنا تحاول هذه الدراسة مناقشة العلاقة الثنائية من حيث هي علاقة ذات مستويات وقيم جمالية مؤسسة على مقاربات نظرية في المحاكاة، الزمن، أو العصر والالهام. وهي محاولة للخروج بتعليلات جمالية لماهية العرقة من الناحية المفاهيمية والجمالية وفق المفاهيم والمقولات العلمية النظرية. والمبادي المفترضة نظريا من قبل بعض المنظرين في المجال الاستاطيقي والمرفولوجي) الفني الخاص بالمسرح عموما بوصفه منظومة من العلاقات..

مدخل جمالي

يبدو أن علاقة الممثل بالشخصية هو اقتراح جمالي بالضرورة لذا فإن الدراسة الجمالية في هذا المجال تواجه ثوابت متواترة تاريخيا، ذلك لأن الممثل والشخصية هما بمثابة عملية جدلية قائمة على (الفعل) فمنذ (افلاطون) كان الممثل يباشر وظيفته (الراسبودية) أي انه يسرد حوار شخصيته الممثلة، وهذه إحدى المنطلقات الرئيسة في (فن الممثل) الذي كان يعرض دوره قبل أن يصل إلى مرحلة الممثل (المندمج) أو المتقمص، للشخصية.

ونقول انها تحاكي ذلك لأن هذه العملية تحاكي النماذج البشرية، وتوازن أي انها توازن ما بين لصوت والجسد.

وبهذا المنطق فقد تطلب فهم العملية التمثيلية عند الاغريق بأن يولي الممثل اهمية للوضوح في التعبير الكلامي (الصوت) أكبر من مجرد ابراز خصائص الطباع عند الشخصية، الامر الذي جعل تلك الالفاظ مصحوبة بشيء م ن الموسيقي اضافة إلى الحركة الجسدية المصحوبة بتلك المنظومة الاشارية، وهي كل ما يدخل في احساسات الممثل لتشكيل ظاهر الشخصية مع اختفاء التأثيرات النفسية (السيكولوجية) وراء (القناع) الذي يغطي وجه الممثل، مما ادي إلى تراجع في التحولات الداخلية في بنية الشخصية.

الامر الذي دعا الفيلسوف الالماني (هيجل) إلى القول: كان الممثل غاية في البساطة والبدائية حتى اننا نستطيع القول باننا لا نعرف شيئا عن التعبير بحركات الوجه عند الممثلين اليونانيين.

ويجد هوراس الروماني أن التماثلية بين الممثل والشخصية لا تتم الا بذاك المتحقق من صدق الاداء عند التمثيل، ويبرر ذلك بقوله إن أردت استدرار دموعي، أوجب أن تحس بنفسك عضة الالم أولا، وعندئذ فقد تحزنني مصائبك، وإذا كان الدور الذي ستؤديه لا يناسبك فلسوف اضحك وأتثاءب.

، فالوجه الاسيف تناسبه الكلمات الحزينة، الوجه الغامض تناسبه الالفاظ الخانقة، والنكات تلائم الموجه المتهلل، وبوادر الحكمة مع الوجه الوقور. فالطبيعة من المبدأ قد صاغت ارواحنا بحيث تهتز للمؤثرات الخارجية.

وبهذا فإن هوراس قد وضع الممثل والشخصية في نمطية ادائية بالرغم من مطالبته ب (صدق الاداء) هذه منطلقة من ماهية العملية التمثيلية في الفترة (الرومانية) حيث كان الشخصيات تؤدي حسب طباعها المعهودة والملازمة لها امثال (ماك الغاضب) (بوكلان المغرور) وبايوسي العجوز المضحك وغيرها من الأعمال.

تواصلت هذه النمطية في الشخصيات حتى بعدما استطاع المسرح أن يفك اساره من قيود (الكنيسة) ويبعث من جديد بواسطة ممثلي كوميديا الفن الايطالية (ديلارتي) وإننا لنلاحظ بالرغم من أن اداء الممثل في هذه الكوميديا يعتمد الرشاقة في الحركة والخفة في الاداء والمتوافر علي روح جمالية ساحرة، الا أن هذه الشخصيات بمحتواها التكويني ظلت اسيرة الوعظية.

فالارتجال كان لحساب الحكاية اما الممثل فقد كان حبيس تخصصه بشخصية واحدة يمنحها عمره كله.

المقاربات الجمالية بين الممثل والشخصية:

شهدت علاقة الممثل بالشخصية توجهات جديدة في اطارها الجمالي بعد أن احتلت الكلاسيكية الجديدة مكانا في حركة المسرح، حيث تطلبت تلك التوجهات أن يكون الممثل في طريقه ادائه والقائه (ساحر) ومتطابقا مع ذلك السحر الذي يزخر به الشعر على لسان الشخصيات. وانعكفت هذه العلاقة انعطافاتها الكبيرة على مستوي التنظير لجمالي في القرن الثامن عشر (عصر التثوير) إذا اندفع الانسان امام مستجدات يومية لا تري لها نهاية. لهذا كان للذهن الحساس استجابات شديدة ومغايرة انعكست بوصفها اتجاهات حقيقية ومتناقضة في المسرح عندما عرف (دنيس ديدرو) الدراما الجادة بانها دراما لها علاقة بالحياة اليومية التي يحيياها كل منا، لذا فقد اقترح بعض الوجوه المعاصرة التي تواجه المشاكل نفسها التي يواجهها المتفرجون وأصبح المسرح (مرآة) يري فيها المتفرج شبيه ويتعرف اليه. اذ لم تعد المحاكاة وسيلة للتحرير أو النظر إلى العالم بعين ناقدة بل وسيلة لإثارة اهتمام المتفرج والتقرب اليه وتدعيم رايه في (ايديولوجيا) مجموعته الاجتماعية واخلاقيتها، ويتمثل مفتاح هذا الاهتمام في حمل المتفرج على تطبيق ما يراه علي خشبة المسرح على نفسه مباشرة.

لذا جاء بحث ديدرو الطريف والممتع الذي قال فيه عن علاقة العقل بالعاطف لإطرائه على أن يبقي الممثل بمعزل عن تلك الانفعالات التي يصورها وأن يعرض الشخصية التي يمثلها بينما يظل ممسكا بزمام الامور حتى في اشد المشاهد المسرحية اثارة وانفعالا. ويري ا ن الممثل يمثل بشيء من التأمل مع التعمق في دروس الطبيعة البشرية ومع تقليد ثابت حسب انموذج مثالي وبعد تصور ذهني فانه يكون ممثلا كاملا على الدوام.

إن هذه الدراسة مهمة جدا لمن يعنيه امر المسرح فقد استشهد الباحث بعدة ازمنة واسماء لكل زمان في رؤيته وتصوره لعلاقة الممثل بالشخصية.

 يضيف بأن لسنج بواقعتيه المعروفة التي ربطت الدراما بحياة الفرد العادي وتصويره لمفردات تلك الحياة، وكذلك شيللر في المتأثر والمؤثر باعتبار الفن لعبا منزها من الغرض العملي أي بلا منفعة باعتبار أن المسرح بمثابة مؤسسة الأخلاقية

اما هيجل فانه يري أن علي الممثل إلى حانب تشبعه بروح الشاعر والشخصية أن يتدبر امره بوسائله الخاصة لتكملة دوره وسد الثغرات واحسان الانتقال باختصار يترجم بتمثيله شعر الشاعر وأن يكشف لنا عن أخفى نياته ومقاصده وأن يعوم على السطح اللآلئ المختبئة في الاعماق.

وشهدت علاقة الممثل بالشخصية في القرن التاسع عشر تماثلية من نوع اخر. خاصة بعد أن ادخل اندريه انطوان الجدار الرابع، وخلق تلك العلاقة التمويهية مع المتفرج بوضعه لعنصر الايهام حيث اتخذت الشخصية اسما يدل على وظيفتها وانتمائها الاجتماعي والجغرافي، اذ ازدادت الشخصية اقترابا من الواقع. ويري زولا: إن على المسرح الحديث أن ينشئ شخصيات حية مع اعترافه بثقل الحتمية التي تحكم مصير الانسان. وحين أصر انطوان على أن يجعل من المسرح جزء من العالم المعاصر، تحول اداء الممثل ليكون مماثلا للشخصية، وأن يمتلك حياتها بارتدائه زيها، اذ ما دام لشخصية وجه محدد يحتم علي الممثل أن يعطيها جسده ويمتلك حركاتها. اما تفاصيل الاداء فتؤخذ من ملاحظة الواقع مباشرة.

بيد أن جدل العلاقة بين الممثل والشخصية لم يحسم بحلول جوهرية وجذرية أصلت من (فن الممثل) إلا بظهور (كوستانتين ستانسلافسكي) في روسيا حينما ركز على دراسة السلوك العضوي في السدور البشري (الشخصية). جعل ستانسلافسكي التقنية التمثيلية مشروطة بتطورية في السيكولوجية وطبيعة الممثل الجسدية وهذا التطور الشرطي ينبغي أن ينطلق من العناصر المكوة للحدث الشرطي ويرتبط معها بتفاعلية، لأن مهمة الممثل تتجلي في سيطرته علي هذه العناصر العضوية لينسج حياة الروح البشرية في الدور (الشخصية) علي نحو فني لذلك لكي تربي الممثل ليصبح فنانا، لا يكفي أن تسلحه فقط بالتقنية، وتلقنه طرائق الفن، انما ينبغي أن تحسن تربيته بوصفه انسانا، وأن تساعده على أن يشكل شخصيته متكاملة، وأن تعزز مواقفه الجمالية والتقدمية بوصفه مواطنا يتحلى بكل خصائصه الانسانية الفردية المتميزة.

ستانسلافسكي

ملتقي المحاكاة:

يتعقد الجدل حول ماهية العلاقة بين الممثل والشخصية وعملية بنائها بين الانشاء والتغريب، فالأول يتطلب منه تأليف أو تأسيس هوية جديدة، هوية للكائن الوهمي المسمى شخصية، والثاني يوجب اعارة الممثل ملكاته التكنيكية، حيث تكون الهجرة معاكسة. وإن صحت التسمية، أي أن الشخصية هي التي ترحل نحو الممثل. وفي كلتا الحالتين يحاول المتلقي أن يوجد علاقة تمويهية ما بين الممثل والشخصية، وفي كلتا الحالتين، يبرز الجانب الاشكالي في علاقة الممثل والشخصية المتمثل في الكيف الذي ستكون عليه العلاقة.

كيف يتمكن الممثل أن يعبر عن حياة غربة عليه؟ اعتمد ذلك الايحاء بين السطور للمؤلف؟ ام في محاكاة ذلك المتخيل لديه والمتكون من نسيج البنية العقلانية بين الشخصيات بخط متغلغل للحدث ومسيج بالحبكة.

لويجي بيرانديلو يجد أن الشخصية وهي على المسرح تقول الكلمات التي كتبها المؤلف، ولكنها ليست الشخصية التي خلقها بالذات، ذلك أن الممثل اعطاها صوته وتعبيراته الخاصة بإعادة خلقها من جديد. ويري ايضا إن مهمة الممثل في ذلك لا تختلف عن مهمة الرسام، أو المترجم، باعتبار أن كلا منهما وجد امامه قطعة فينة سبق تجهيزها واعدادها والتفكير فيها بوساطة غيرهم، وبهذا، فانه يمنح أي بيرانديللو الممثل صفة المترجم والمقلد لشخصيات المؤلف حتى وإن كان تمثيله حيا ومطابقا لما يتخيله بحجة أن صورة الشخصيات تتغير من ذهن المؤلف إلى ذهن الممثل، والممثل يمضي إلى عمله التنفيذي أكثر مما ينظر إلى التعبير الفني. ويخلص بيرانيدللو، إلى أن: التمثيل على المسرح ليس هو التعبير الاصيل، ولكنه ترجمة، وإذا أردنا أن نقدم الشيء الاصيل على المسرح، فما علينا إلا البحث عن (كوميديا الفن) التي تترك للممثل حرية العمل حسب اصول الفن. هناك حقائق ملموسة يمكن العثور عليها في مناقشة مثل هذه الاشكالية، الممثل والشخصية أو الشخصية بين الممثل والمؤلف، ينطوي بعض هذه الحقائق في أن المؤلف لا يروي كل ما حدث لشخصية معينة وانما يروي ما هو اساس لفهم هذا الشخص اذ تبقى الدراما أسيرة أوراقها إن لم تمنح نبض الحياة علي الشخصنة ولولا  اضفاء الممثل ابعاد تشكيلية، سمعية وبصرية لشخصياتها، وهنا لا يقتصر دور الممثل علي التغلغل في روح المؤلف والشخصية التي يقوم بتمثيلها ويتشكل تماما التشكيل بالشخصية في باطنها وظاهرها حسب، بل انه وبسبب قدرته علي الانتاج يحل بشخصيته علي كثير من الاشياء ويملا كل فراغ، ويحدد المسالك ويمهد الطرق، ويجعلنا نفهم وندرك بابتكاراته ما قصده المؤلف، ويخرج إلى الحقيقة النوايا الخفية والملامح الرئيسة التي تركت غامضة في الانتاج الفني الذي وضعه المؤلف. لا يمكن أن يكون الممثل اسير (محاكاة) سطور المؤلف ومترجما امينا لظروف الشخصية المعطاة من قبل المؤلف، ذلك لأن الدراما تحاكي البشر في تسلكاتهم، وعليه فإن ديناميتها تنبع من ذلك المتطور في مسيرة البشر ضمن تطورية الحياة، وإذا سلمنا جدلا، بأن الممثل يحاكي الشخصية كما وضعها المؤلف، فإن محاكاته ستكون محاكاة انتقائي، كما يصطلح على ذلك ستولنتينز. محاكاة خلاقة بدلالة عمله المثابر في التفتيش عن تلك الجوانب التي تمثل حقيقة الحياة بالنسبة للمتلقي والشخصية التي يمثلها على حد سوأ.

وإذا كان مفهوم البطل عند (ارسطو) هو المجسد لكل الناس لأن ما يحدث له يحدث لكل الناس، فإن عمل الممثل علي الشخصية لا يترقى إلى قيمته الجمالية ما لم يكسر المدرك المألوف والمتراكم في التجربة التمثيلية. أن يبدأ من الجزئيات المساهمة في تشكيل حياة الشخصية على الخشبة وصولا إلى الكلي المتناسق في ابعادها.

إن الممثل يري الدوافع وكل انطباع لديه يتوجه نحو الفن، لأن فنية التنفيذ عنده تندمج اندماجا في ادراكه الحسي للأشياء وتستميل عينه أو اذنه وتحدث رنينا في الطريقة التي يفهم بها الجمال.

ملتقي عصرين:

ما الذي يدفع الممثل في بناء الشخصية، ادائيا، لأن يدرس المؤلف والعصر والبيئة؟ أوليس المطلوب هو تجسيد الشخصية وفقا لاشتراطات المؤلف؟

إذا ما سلم الممثل بهذه الامر، فإن تجربته الابداعية ستكون ضيقة لأن المهم والابداعي هو فردانية الشخصية وهذه الفردانية لا تتحقق ما لم يؤطر الممثل الشخصية بمدركاته الجمالية والعبور بها إلى ذلك الملتقي والاستتطاقي بين عصرين عصره وعصر الشخصية، تحقيق مخيلة متجانسة بين تجربتين، تجربته هو وتجربة المؤلف. لأن الممثل سيد عصره لحظة العرض المسرحي، وهذه اللحظة هي اختزال لعصر بشري كامل برؤاه وفلسفته وحقيقته فالممثل هو الذي يعصرن بجسده كل القراءات التي يكبتها المخرج ومن قبله المؤلف لشخوص هذا العصر أو ذاك.

إن الممثل وهو يتعامل ابداعيا مع النص انما يفكك بنيته مع المخرج، ومن جانبه، الممثل يعيد بناء الاجزاء في الشخصية وصولا لكتابة نص الشخصية من جديد ومن خلال فرض سطوة (أناه الابداعية) كونه الطرف الأساسي في العملية الابداعية، وهو وحده الذي يمتلك الشخصية روحيا فيبعثها حية متحركة به ومتحركا في اهابها، بوصفه أول من يستوعب الرؤيا فيغنيها وينقلها من ذلك الحدث الضبابي إلى عالم المجسد والملموس، وبذلك يسمو إلى العبقرية الموازية لعبقرية المؤلف وتصويب المخرج. إن العبقري هو الذي يكتشف اختراعات الأخرين ويضفي عليها الحياة. إن عمل الممثل علي الخشبة هو عملية (ديالكتيكية) معقدة حيث يرتبط الماضي بالحاضر والمستقبل، وتتسم كل مرحلة من مراحل حياة الشخصية بأهمية مستقلة بوصفها وحدة قياس لهذه العملية المستمرة ولكي لا ينحرف الممثل عن فنه الاصيل يتعين عليه الابتعاد عن الزمان والمكان اليوميين، ويبتكر لنفسه زمانا ومكانا فنيين، اذ لا يستقيم الامر مع الترهل في الوقت والمسافة، ولكي يلاحق الممثل هذا الهاجس وهذا الانفعال الجمالي يجب أن يحسم معضلاته الجسدية والنفسية وتخيلاته الخلاقة، لأنها علاماته الجمالية التي تزين مكانية جديدة تستقطب حدود المؤلف والشخصية وتعصر في زمن جديد منتج تفاعلية مخيلتين المؤلف والممثل ومقاربة عصرين تنشط مخيلة المتلقي في استقبالها. إن الممثل لا يعيش حياة الشخصية وحسب بل ويعبر بشكل نشيط عن موقفه مما يجري حيث أن الممثل لا يستجلب عواطفه ومعاناته وافكاره تلك من خارج جلدته الطبيعية البشرية، وانما تكون هذه المعاناة ولادة مخاض قد خبره الممثل نفسه في الحياة، وبذلك هو يرهن نفسه وقدراته كلها لدوره الذي يتوج ويصعد من مشاعر الممثل الأولية في الشخصيات (الادوار) التي يؤديها.

ملتقي الالهام:

لو تابعنا النتاج الإبداعي الذي تمخضت عنه تجارب (ستانسلافسكي وتلامذته يتجلى في ذ لك البحث الموضوعي للعمل الداخلي والخارجي من جانب الممثل علي نفسه وعلى الشخصية التي يؤديها. ويبقي الجانب الداخلي هو جوهر الجمال، لأنه الصناعة الروحية التي تسمح للممثل بأن يكون في حالة تتناسب مع الالهام اما الخارجي فهو المعبر عن الدلالات الجمالية المنبعثة من روح الشخصية وبنائها الداخلي. الامر الدي دعا ستانسلافسكي لأن يصف ماهية العمل على الدور الشخصية في بحث الجوهر الروحي للمسرحية لاكتشاف معني كل شخصية من الشخصيات، ولكن متي يكون هذا الامتلاك الروحي للشخصية من لدن الممثل فنا؟ يوصي ستانسلافسكي، تلامذته: ابحثوا قبل كل شيء عما هو جميل في الفن، واجتهدوا في فهمه.

إن تحقيق الجميل يتطلب من الممثل، أن يبدع بوعي وإدراك للوصول إلى عملية الالهام عن طريق معايشة الشخصية. والمعايشة تتم بوساطة ذلك التطابق في الحياة الداخلية والفكرية والجسمانية ما بين الممثل والشخصية وهو يقوم بعملية الانشاء، فالإلهام هو نتاج العمل الواعي للممثل حين تتوفر فيه تمكنيه تقنية مهارة الممثل ووعي الممثل هو تحقيق لقاعدته الخاصة به من خلال ادواته الجسدية كما أن التعبير عن عالم شخصيته الروحي الداخلي لا يكون إلا وفق رسمه لحركة يديه ورجليه ووجهه بشكل معبر، حيث تتركز الطاقة ويتكشف التخيل وتتضح الهدفية والقدرة علي الحسم والنوعية بطريقة اشمل وادق منها تكون منثورة في تضاعيف اليوم وعشوائية الحركة. والواقع أن ستانسلافسكي كان قد ميز بين الوعي واللاوعي حيث فرض بينهما ما يسمي السيطرة، فجعل الأول يقابل (المسيطر) والثاني (اللامسيطر) فالنشاط الواعي له الدور المهم في منظومته. ونستطيع تلمس ذلك حين نرصد ممثلا قد هيا بوعي نمط الشخصية التي يؤديها اذ تصدر منه على الخشبة افعال تلقائية حقيقية لا يتوقعها الممثل نفسه وبالذات فإن هذه الافعال هي ما يسميها ستانسلافسكي لحظات ابداع واعية، وبعبارة أخرى فإن الالهام وما يلهم الابداع ليس ذلك الحقيقي الذي يقدمه المؤلف وحسب، وانما الممكن المتحقق بواسطة مخيلة الممثل الخلاقة التي تحقق التوافق بين الفكر والفعل. إن كلا من القوتين (القلب والعقل) يستطيعان خلال تركيز الانتباه أن يحققا تخيلا عن (الأنا) الشخصية بحيث يصبح بالإمكان خلق حالة من الاتساق الكامل عند الاعداد الذهني لشخصية من الشخصيات. بحيث تحدث خطوة الصفاء الخلاق وقفة في الاعداد الذهني للممثل. بعدها يشكل أي جزء من المهام الشرطية المقدمة له في أي شكل من اشكال التجميع عالم فنه الخلاق كله. انه يحقق تصويرا صادقا لشخصياته المسرحية، لأنه ادخل حياته الخاصة من داخل نفسه على هذه اللحظات من حياة الشخصية الغريبة التي قدمها له المؤلف واصبحت حياته هو.

خلاصة القول أن الشخصية ليست ثمرة البناء النصي فقط، وانما هي ثمرة ابنية مسرحية سابقة، ثمرة تواصل معرفي ما بين الابداع والمبدعين، وإلا هل يستطيع ممثل ما أن يتصور (هاملت أو اديب) دون الرجوع إلى العصور المسرحية التي مثلتهم في الماضي؟ أو دون الرجوع إلى ما ابتدعته مخيلة فناني التصوير التشكيلي وهو يحددون عصورهم تحديدا جماليا. اذن الشخصية المسرحية والموجودة بطريقة محسوسة هي نتاج البناء المسرحي الحالي الذي صنعه الممثل.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.