طيور أثيوبيا، الحكي عن المعاناة هل يخفف من وقعها؟

0 611

 ناصر بن محمد العُمري – السعودية

تخلّف الحروب أصنافاً من المآسي والآلام، والعذابات، التي تأخذ أشكالاً عدة، ويترجمها الضحايا عل شكل أفعال غاية في الغرابة، تفوق حدود التصور والاحتمال، وتصنع في ضحاياها عقداً نفسية لا تزول؛ عصيّةً على الروح؛ يفشل الزمن في جعل الضحية يتجاوزها.

 هنا، سأزعم أن رواية “طيور أثيوبيا” فتحت نافذة على تلك المآسي، وغاصت في (حيوات اللاجئين – البغايا – الحروب – التشرد)، على امتداد (112) صفحة تمثل مجموع صفحات الرواية؛ الصادرة عام 2014 عن دار طوى للثقافة والنشر والإعلام.  لا يكفَ “علي الشدوي” عن الحكي، وسرد الوقائع، ونقل ما يدور في المحيط الذي اختاره فضاءً مكانياً لروايته – عمارة في أحد شوارع حي الآيرون بجيبوتي – يحتضن معظم الحكايات سوى نزر يسير من تلك الوقائع التي جرت أحداثها في الطريق إلى العمارة أو في محيطها. مع كثرة الحكي، أعتقد أنك تتذكر مقولة “بالع راديو”، بمعناها الإيجابي.

 يرصد الكاتب، في “طيور أثوبيا”، معاناة اللاجئين الفارين من الصومال إلى جيبوتي. يتحدث عن العالم السفلي ظلامية ومآسي الحرب؛ عوالم البغايا؛ حياة اللاجئين: طقوسهم، وأمانيهم، وآمالهم؛ وطرف من الحياة في القرن الأفريقي، أو بشكل أدق جزء منه. يتتبع حياة الفارين من ويلات الحرب إلى حياة جديدة، وأزمنة جديدة. يختصر حياة اللاجئ على لسان فارح نور، سائق الأجرة الذي يحمل الشهادة الجامعية؛ من قسم الفلسفة بجامعة الفاتح؛ وأجبرته الحرب على هذه المهنة؛ وكيف أن الحكي عن المعاناة يخفف وقعها وإن كان لا يزيله تماماً.

 المعاناة قد تنجح في تحويل الإنسان العادي إلى محاضر: “إذا كان الوطن يساعد الإنسان أن يكون نفسه فإن اللاجئين لا يشبهون أنفسهم، يعيش اللاجئون أزمنة جديدة ويستقرون في أمكنة جديدة ويتكيفون مع أمزجة جديدة، يعيد الزمان والمكان والمزاج تكوين اللاجئين، ليس اللاجئون ما كانوا في أوطانهم إنما ما تحولوا إليه” (ص 10). جال السرد بالقارئ في أزمنة عدة من مرحلة ما قبل الحرب، وما يسبقها من فساد يعتبره ضرورياً لنشوب الحرب؛ إلى لحظة إعلان الحرب، والذهول الذي يعتري الإنسان لحظة سماع دويها، ويشخّص هول وقعها على الناس وأمنياتهم لحظة يقينهم بنشوب الحرب بتبديل الوضع وكيف يتحايل الإنسان بالأماني لتجاوز تلك اللحظة المروعة بالأسئلة؛ وليس انتهاءً بلحظات الألم على لسان فارح نفسه: “ليس صديقاً من يموت في الحرب أنما وطن” (ص11)؛ ومروراً بما يحدث للناس أثنائها حين تحولهم مشوهين جسديا ومشوهين روحياً يتحدث الناس عن جروح الجسد بينما هو جروح الروح (ص 15).

يغوص الشدوي إلى نقطة قصية في واقع وحياة وأرواح اللاجئين: “لو أنني سألت أحدهم عما تعنيه حليمة له فأظن أنه سيقول: أختي لن يقول حبيبتي. عشيقتي. صاحبتي لا لأنها متزوجة إنما لأن معنى كلمة أختي أقوى تموه العلاقة العشقية بين الأخت والأخ في الجزء القديم من البشرية إضافة إلى هذا المعنى المموه هنا اندماجاً فيهم تلعب علاقة الاندماج دوراً مهماً بين اللاجئين تهيمن عليهم صيغة الجماعة” (ص44). يتخيّر من وقائع الأحداث التي تتناسل وتتوالد من الواقع. على لسان “فارح”، ترد أقسى الحكايات وأغربها حين يروي أنه تبرز على نفسه ثلاث مرات: فور رؤيته جثثاً مشطورة لبعض أقاربه، وحين دوت المدفعية خلف مبنى طيني لحظة عبوره، وحينما أوقفه مسلحون على حدود مقديشو حيث لم يشفع له بالنجاة من قبضة الجنود سوى سقوط البراز عند قدميه. وللوصول بالقارئ إلى حالة من الألم، توازي الواقع، يختار الشدوي العديد من المناظرة المقززة، والقصص المرعبة، والمشاهد التي يعبر عنها بعدد محدود من الكلمات، لكنها كافية لإشعارنا بحجم المشكلة على لسان فارح نفسه “صديقي شنق نفسه لأنه لم يتحدث إلى أحد، يقول الناس أنه أنتحر اعتراضاً على الحرب لكنه في الحقية أنتحر لكي يتخلص من عار تبرزه” فيما صديقه الآخر أختار أن يغرز خنجراً في مؤخرته لينتحر “لم يمت؛ هو الآن مجنون”

أما النهايات، فيبرع الشدوي في اختيار المختلف منها للأحداث؛ فهي هستيرية تارة، كما في حالة لقاء الراوي مع السائق. حين يوصله إلى باب العمارة في حي الآيرون، ينظران لبعضهما فيضحكان، وما أن يهدأ الراوي عن الضحك حتى ينفجر السائق. هما لا يعرفان سبب الضحك ومن شدة الضحك يتعانقان. هي نهايات عدمية. في تارات آخر، حيث  يقضي معظم الشخوص حياتهم بالانتحار؛ ونهايات ثالثة أشبه بتلك الممارسات التي يقوم بها المدربون والممرنون في ورش الكتابة والقراءة الإبداعية، وجلسات تعليم مناهج التفكير؛ فلقاء الراوي مع “ملحة”، الفتاة الغريبة  التي يتحاشى اللقاء بها، ويعجز عن ذكر وصف محدد لها (هل هي ذكر أو أنثى )، تتجسد هذه الحالة حين يحدثنا عنها مرة بصيغة الفعل “ظهر”، ثم يعود ليؤكد أنه ليس متأكداً من صحة التعبير بـالفعل “ظهرت”؛ لتأتي لحظات الجنون “إن إمكانكم أن تتخيلوا -لا ما فعلت آنذاك بل أن تعيشوا شعوري بعد أن فعلت – بأنني عار” (ص93(. كذلك، تثبت طيور أثيوبيا “أن توقف الحرب أو النزوح عنها” لا يعني أن كل شيء قد أنتهى؛ فالحرب ليست قادرة على تغيير الحدود، ودحر العدو وهزيمته، بل تعني أيضاً تغيير النفوس، وهزيمتها، وتشويهها، وتحول الإنسان إلى شخص موجوع. تذهب بنا الحكاية لأبعد نقطة في أقاصي أرواح وحيوات الضحايا وتعبر بنا إلى الشوارع الخلفية والعالم السري لحيوات البغايا تصل حد أن يتعلق الإنسان بالألم ويفضله كما في حال أولئك البغايا اللائي يرفضن الخروج من واقعهن لأنهن مرتبطات به حتى تحولن في حالة إحداهن “أليزا” إلى حالة تشبه “الحمامة ذات القلب النازف”، والتي تأتيها الفرصة تلو الأخرى لعيش حياة أفضل لكنها ترفض.

قيمة مضافة

هذا العمل الروائي يعرف القارئ على خبايا كثيرة. يفتح له أحياء جيبوتي، من حي الآيرون إلى حنبلي إلى بلاص رامبو؛ وتكاد تشعر أنك تتجول مع شخوصها في شوارعها وتشاركهم الطعام بل تشم رائحة الأكل المنبعث من مطابخها، ومطاعمها. هذا فوق التعريف بتركيبة الناس هناك، وغرائبهم، وجمالياتهم، وكيف يعيشون، وأصولهم القبيلية (عفري، عيساوي، وغيرهما من الأصول المحلية)، والأزياء الجيبوتية “محتشمة، تلبس لباساً جيبوتياً محلياً مزركشاً بالأخضر والأزرق يحف الأرض ذيل شرشفها الطويل” (ص 37). يمرّ العمل، أيضاً، بمشاهد التداوي بالأعشاب، وشيوع بيع الحشرات في الأسواق، وتأثير وجود الحاميات والجنود الفرنسيون، وانعكاساته على الخلفيات الاجتماعية والثقافية وأساليب العيش والحياة. كما أن هذا العمل يجعلنا نعيش مع أحداث غير مألوفة لنا (الانقلابات، القناصة، حروب الشوارع، الغياب الكلي للأمن في لحظة ما)

 لكاتب، هو الآخر، لم يعش هذه الأحداث من قبل. ولكونها كانت بالنسبة له مجرد حكايات مقروءة ومسموعة؛ لذا جاء سرده لتلك الإحداث متأثراً بهذه الحقيقة مملوء بالدهشة؛ ليجرنا إلى تأثير الحرب في الفن، حين تغدو أغاني الراب هناك على شاطئ الآيرون تتحدث عن أسلحة وجريمة وأسلوب العصابات مروراً بغرابة المشاهد ودهشتها “أمرأة تحمل حذائها، شاب يري الفتاة عضوه، رجل يتقيأ دماً وآخر يبكي عنده، أطفالاً يسيرون عراة كما لو أنهم يستعرضون بطونهم المنتفخة، وإذا أقترب المساء بدأ اللاجئون يتجمعون على الأرصفة” (ص58 (

استحضار روح الشخصيات التاريخية من طرف خفي

برز في رواية طيور استدعاء الشخصيات التاريخية كـ”عقلاء المجانين” في الثقافة العربية، و”دينيوس” في الثقافة الاغريقية، التي لها صورة الآخر (مخيفة ولطيفة في آن). يتجلى ذلك الاستدعاء غير مرة. منها حين يسرد حدثاً مدهشاً وغريباً عن زوجة آدم بيلو حليمة التي “تبتكر الوسيلة تلو الوسيلة لإغواء وإثارة الضيوف اللاجئين” عبر حركاتها وغنجها، وقهقهة زوجها “حين تثيرهم حليمة فهي لا تُتهك لأن لا ظروف تنتهكها. تريدونني، تشتهونني، تقول ذلك من دون أن تشكل إيماءاتها عبثاً أخلاقياً، دون أن تترك أثراً في زوجها، هي في مركز اهتمام المجموعة مندمجة معهم لكنها هامشية” (ص46).

الانعطافات المفاجئة وأبعادها الفلسفية

لا يكتفي الشدوي بسرد الأحاديث، والأحداث والحكايات الغريبة والمفاجئة والحافلة بصور كاريكاتورية، بانعطافات غير متوقعة، مثل حكاية نوال التي خرجت من منزلها، وذهبت إلى شاطئ الآيرون، وأكلت هناك بطاطس مسلوقة في الماء أضافت قليلاً من الملح وحلتها بكتشب وشطة، واشترت بعض الأشياء من دكان بجوار المعهد السعودي؛ مما يعني أنها مقبلة على الحياة؛ إلا أن انعطافة الحكاية تحمل المفاجأة حين تغير طريقها إلى شارع الجمهورية. تسمع صوت القطار القادم من أفريقيا، تضع ما تبقى من البطاطس في حقيبة اليد؛ لتأكلها مع بقية صديقاتها، لكنها حين اقتراب القطار تقفز تحته دون سابق إنذار؛ لتثير الحادثة الكثير من الأسئلة، وتسترعي الكثير من الانتباه.

تمثل هذه اللقطة إحدى الانعطافات المفاجئة التي عادة تبعها استفهامات حول الحياة، والوجود، لتأملات؛ وتشوفات؛ وتفكير في المآلات عبر جمل وأسئلة على لسان الشخوص المختلفين والمتناثرين على امتداد الرواية، وخصوصاً تلك الأسئلة التي لا تُعرف إجابة لها، ولا وجود لإجابة قطعية لها، ومع ذلك يتم ارتكابها، وأعظمها تلك المتعلقة بالموت التي تبقى معلقة بموت صاحبها: “ثم تحدث عن الأثيوبية التي رمت نفسها تحت عجلات القطار سألني: هل تتوقع أنها نظرت إلى القطار. أعتدل، ومن غير أن ينتظر إجابتي قال: لا بد من أن ذلك أخافها لكنها قفزت”. (ص 96)

لا تنهي طيور أثيوبيا تلك الآراء بقدر مل تلفت الانتباه لها، مثلاً:

  • سيلوثها الزواج (المؤسسة الأسوأ التي اخترعتها الثقافة البشرية)
  • “البشر ليس لهم آباء بالمعنى العضوي إنما بالمعنى المجازي”
  • “تعم الأخلاق الاجتماعية الأفعال الاجتماعية “

 في المقابل، لا يخلو العمل من تلك اللحظات التي تمد القارئ بلحظات من البهجة تخلقها تلك الصور الكاريكاتورية التي يخلقها لك السرد الروائي كما في وصف “مصطفى جوليد”: “من يره يظن أنه جد القرن الإفريقي كله.. نسيت الطبيعة متى ولد، فأعتقد أنه ولد توا،ً وبلغ إعتقادها حد اليقين الذي جعلها تنبت أسنانه من جديد” (ص26)

الطيور والبيئة المحلية للكاتب

 تحضر الطيور بكثافة في هذا العمل، فيندر أن تجد شخصية من الشخصيات إلا ويشبّهها الراوي بطير أفريقي (حمامة فكتوريا، طائر النغري، ذكر النعام، الوروار، ..)

 وحيناً يذكر بعض صفات الطيور فيسقطها على إحداهن: “لست متأكداً إذا ما كانت تحبه أم لا، لكن حينما يأتي تبدو هادئة كطائر غير جفول إلى حد يجعله محبوباً لمن يقترب منه طائر معدوم التجربة لأنه يجهل حقيقة ما يقترب منه” (ص37)

بموزاة ذلك، حضرت البيئة المحلية عبر إشارات، وطرف من حكايات وألعاب الطفولة، وكذلك بعض مصطلحات واستعارات لطيفة مستلة من بيئة الجنوب السعودي؛ جرى توظيفها في السرد  فـ”دواء موسى” حكاية معروفة لدى أهل الباحة برمزيتها ودلالتها وإسقاطاتها و”المرود والمكحلة” كذلك بدلالتها وإحالاتها  كانت حاضرة، وقصيدة “حبيبي حبني ثم أنفشخ لي” المغناة، وحتى “عوليد” بائع الحشرات في سوق الذباب يأخذنا إلى “الدنَان” الحشرة التي كان يصطادها الصغار؛ ليتبتوها بواسطة شوكة طويلة على “جحادة” وهي جزء من ساق نبات الذرة الجاف، وأثناء محاولة الطيران لا يستطيع الفكاك من الشوكة؛ فيتحول للعبة أشبه بمروحة يجد فيها الطفل في بعض نواحي بيئة الشدوي المحلية بعض متعته

ونس الحكاية

حملت “طيور أثيوبيا”، رغم ما حملته وصورته من أوجاع وآلام وغرابة، “الونس” لقارئها؛ وذاك بفضل التنوع اللافت في مسارات الحكاية والاشتغالات السردية بها؛ وكانت للذة السرد والحكاية قدرتها على الاستئثار بالقارئ رغم القسوة والمرارة والواقع المؤلم البائس الحزين.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.