لغة الأنا ولغة الآخر: الأمن اللغوي و”تقويض البيت الآمن”

0 328

قلولي بن ساعد – الجزائر

 

 يردد بعض السذج، من مثقفي الهوامش الشرقية والإفريقية والتابعين، جملة من التصنيفات العرقية واللغوية لحروب اللغات الجاري العمل بها منذ سنوات طويلة في مخابر المركزية الأوربية الغربية، فيبتعلون الزعم القائل بأن اللغات الشرقية والإفريقية رجعية، ومنها العربية بالطبع، ورجعيتها تعود إلى سطوة المقدس عليها. وهذا غير صحيح بإعتراف ناقد وسيميولوجي من الفضاء الثقافي والجامعي الأمبريالي أفنى عمره في الحفر الدلالي اللغوي؛  وهو رولان بارت  بتأكيده أن (ليس اللسان، بوصفه إنجازا لكل اللغات، برجعي ولا تقدمي) (1). مضيفًا أن الفاشية ليست منعا من الكلام؛ وإنما هي إجبار على الكلام.  وعليه، فالنسق الثقافي  المضمر في إعتراف بارت  بنفيه التام (للسان بوصفه إنجازا لكل اللغات برجعي ولا تقدمي). يشير بصورة ضمنية مضمرة إلى هيمنة وفاشية لغة المستعمر على إنسان الفضاءات الأخرى الذي وقع عليه  فعل المحو والإحتواء؛ فأجبر على تعلم لغته وإتقانه لها وإهمال لغاته الأصلية، والشعور يدونيتها، وتواصله معه بها في حالات الحرب والسلم معًا ضمن مشروع  إقصائي   كان يهدف إلى فرض منطقة المثاقفة بالقوة.

وبالطبع لست هنا في وارد الإعتراض على إتقان وتعلم لغة الآخر لأن ذلك ضرورة حتمية تفرضها حالات الإنفتاح على ثقافة الآخر وضيافته؛ الضيافة المشروطة بإحترامه لأخلاقيات الضيافة “ليس فقط كموضوع أخلاقي بل إنها هي الأخلاق  ذاتها ” (2) على ما يرى ديريدا.  ثم التصدي لمحاولات ( تقويض البيت الآمن ) بمفهوم سيغموند فرويد. بماهو آلية دفاعية تمكن البلدان المعولمة من تحصين ذاتها من أي محو لغوي أو ثقافي؛ حتى ولو تعلق الأمر بالتصدي لكل المحاولات الرامية إلى (تقويض البيت الآمن). مما يتطلب إحلال (ملف الأمن الثقافي)  و (الأمن اللغوي) تحديدًا المكانة القصوى ضمن مشاريع التكوين الجامعي، ضمن ما يسمى بحقل الدراسات الثقافية والنقد الثقافي كما فعلت بريطانيا وغيرها من الدول الأنجلوسكسونية.

الأمر الذي يعني أنه لا علاقة لهذا الخروج عن قيم الطاعة اللغوية في بعدها الأصولي (الأصولية اللغوية) كما سماها السوسيولوجي عمار بلحسن. وهو يعني بذلك أصولية النخب المفرنسة التي ليس من مصلحتها نشوء وتبلور نخبة معربة حداثية تدشن قطيعتها الإبستمولوجية مع ثوابت الإستقطاب الإيديولوجي اللغوي في بعده اللساني المركزي من التنكر لقيم العصر والحداثة والتنوير.

ووصف عمار بلحسن لهذه النخبة بالأصولية الجديدة نابع من كونها تبدوا مثلما يعلن عن ذلك صراحة:

“غربية عن المجتمع الأهلي ومتغربة عن نمط حياة وتفكير ومخيلة الغالبية الساحقة من المواطنين تتبنى طروحات مصاغة في خطابات تابعة للخطاب السياسي الإيديولوجي الغربي مفصولة عن المخزون الثقافي الشعبي ولغات المجتمع عاجزة عن فهم حركة إستعادة الهوية واللغة الوطنية وترسيخ أدوات هذه الحركة ” (3).

وهل يمكن أن يجتمع الطغيان والإستنارة لدى ذات واحدة؛ هي الذات الكولونيالية المجبولة على الغطرسة ومحو الآخر؟

وهذا يتناقض بالطبع مع ما جاء في جواب كانط عن ذلك السؤال التدشيني في الدرس الفلسفي عن ما هي الأنوار؟ فقد إعتبر كانط أن الأنوار هي خروج الإنسان من القصور وعجزه عن إستعمال عقله دون إرشاد الغير؛ عندما يكون السبب في ذلك، ليس نقصًا في العقل، وإنما نقصًا في الشجاعة؛ وعندما يكون من السهل على فئة أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين؛ ذلك هو شعار الأنوار.

وها هو مفكر وناقد فرنسي من أصل بلغاري؛ هو تيزفيطان تودوروف يدق ناقوس الخطر عندما يحذر مما يسميه (مزالق التنوير) رابطًا إياه بلحظة تاريخية هي اللحظة الإستعمارية؛ فأن تدّعي الإستنارة لا يحق لك أن تستعمر بلدانًا أخرى بحجة أنك مستنير وتريد تمدين الشعوب غير المتحضرة وهو عذر أقبح من ذنب.

 ورغم أنه لا يمكن الإقتناع بموقف الناقدة الفرنسية البلغارية الأصل  جوليا كريستيفا من مسألة الأصل أو الهوية التي تراها غير ضرورية؛ المعبر عنها بمفهوم (الأصل المهجور) كما ورد في كتابها (غرباء نحن عن أنفسنا).

لكن من الممكن الإتفاق معها؛ عندما يتحول هذا الأصل على ماترى إلى حقد مكثف على الآخر/ الآخر الجندري الذكر والأنثى أو الآخر الذي وقع عليه فعل الإحتواء والإقصاء.

وينبغي أن لا ننسى أن كريستيفا عندما تصر على غيريتها؛ فإنما تفعل ذلك من كونها أولًا إمرأة (آخر بالنسبة للذكر)؛ وثانيا مواطنة فرنسية من أصل بلغاري لم تهضم بعد الأصولية الفرنسية؛ كونها مواطنة فرنسية من أصول غير فرنسية  تتمتع بكافة أشكال المواطنة حتى (المواطنة الثقافية والجامعية) منها من دون أي تحيز أثني أو جنساني.

هذه بعض مثالب الأصولية الفرنسية كما ناهضها تودوروف وناهضتها جوليا كريستيفا والإثنان ينحدران من أصل بلغاري.

المثالب التي لم يسلم منها حتى فنان ألعاب سحرية؛ هو روبيرهودن الذي أوفدته سلطات الإستعمار الفرنسي إلى (الجزائر الفرنسية) ليصرفهم عن معجزاتهم وعن لغاتهم الشعبية والرسمية؛ بإعتراف شاعر فرنسي من شعراء الرمزية الفرنسية وهو شارل بودلير، فقد جاء في كتاب  (اليوميات) لبودلير:

” كان لا بد لمجتمع شكاك من أن يرسل روبير هودن إلى العرب ليصرفهم عن المعجزات” (4).

ونقرأ في الهامش الذي وضعه مترجم اليوميات إلى اللغة العربية آدم فتحي أن روبير هودن: هو ” فنان ألعاب سحرية فرنسي أوفدته الحكومة الفرنسية إلى الجزائر لمقاومة نفوذ الدراويش والأولياء بتقديم ألعاب سحرية تدحض معجزاتهم ” (5).

وهذا يعني ببساطة أن سلطات الإستعمار الفرنسي كانت تخشى كثيرًا ليس فقط من الفلاقة والثوار الجزائريين؛ بل إنها أيضًا كانت تشعر بالقلق من نفوذ الأولياء والدراويش ورموز التصوف واللغة والبلاغة.

وتحضرني، في هذا السياق، حكاية طريفة ولكنها تحمل رمزيتها الثاقبة؛ مفادها أن الصديق الباحث الدكتور حميد ناصر خوجة أخبرني ذات مرة أن والدة الروائي والسوسيولوجي التونسي اليهودي الأصل ألبير ميمي لا تحسن مطلقا اللغة الفرنسية التي كتب بها إبنها روايته الرائعة (تمثال الملح) وغيرها من بحوثه السوسيولوجية وأعماله الروائية. هي تتواصل مع محيطها القريب باللغة العبرية أو اللغة الشعبية التونسية. وعلى التو، تذكرت نفي الفيلسوف الفرنسي – ذو الأصول اليهودية الجزائري المولد – جاك ديريدا في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) في أن تكون الفرنسية هي لغته الأصلية؛ رغم أنه كتب بها مجمل كتبه النقدية والفلسفية؛ وأنه “ذلك الشخص الذي منع في الجزائر من إيجاد منفذ إلى لغة أخرى غير الفرنسية كالعربية الدارجة والفصحى أو الأمازيغية “(6)، ويضيف قائلا:

” أنا لا أملك إلا لغة واحدة؛ ومع ذلك فهي ليست لغتي إنها لغة الآخر”(7) .

 هذا هو منطق الأحادية اللغوية التي عمل ديريدا على تفكيكها من الداخل حتى ولوكان الأمر يتعلق بكتاب كتب بلغة شعرية يهيمن عليها  النفس النوسطالجي. الأحادية المفروضة في نظره “من قبل الآخر وعبر سيادة الماهية الكولونيالية التي ما فتئت تسعى لإختصار اللغات المجبولة على التعدد في بعد أحادي فقط”(8). عبر ما يسميه (بهيمنة المتجانس).

وهي مفارقة وصيحة تبدو قريبة جدًا من إعلان الروائي الجزائري مالك حداد – بعد الإستقلال واستعادة السيادة الوطنية، سنة 1962 – التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية التي كتب بها كل أعماله الروائية والشعرية؛ عندما اعتبر أنه “منفي في لغته الأم”. وهو موقف ينسجم مع ذلك اليتم الخاص الذي تحدث عنه عبد الكبير الخطيبي عندما اعترف أنه عندما يكتب بلغة الآخر فإنه “يشبه ذلك الطفل اليتيم الذي يبحث عن شكل من أشكال التبني”. وهو توصيف لا يختلف كثيرًا عن توصيف الروائية الجزائرية آسيا جبار التي لم تتردد في الإعتراف ضمنيًا بأن هذه اللغة التي تكتب بها (الفرنسية) ليست لغتها الأم وأنها أشبه في رأيها “بزوجة أب فظة وخشنة”

إحالات

  1.  س / ز،  رولان بارت، ترجمة محمد بن رافة البكري، دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2016، ص (7)
  2. سياسات الضيافة شذرات من حطاب في الغيرية، رشيد بوطيب، منشورت توبقال الدار البيضاء الطبعة الأولى 2016، ص (7)
  3. الحداثة المعطوبة، عمار بلحسن، مجلة التبيين، العدد السابع – الجزائر، ص (15).
  4. اليوميات، شارل بودلير، ترجمة آدم فتحي منشورات دار الجمل، بغداد كولونيا 1999، ص (64)
  5. نفسه، ص (64).
  6. أحادية الآخر اللغوية، جاك ديريدا، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم، 2008، ص (64).
  7. نفسه، ص (55).
  8. نفسه، ص (76).

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.