في الحب.. ” جوانب عديدةٌ لموضوعٍ واحد “

قراءة في أفكار الفيلسوف الأسباني خوزيه أورتيجا

0 389

ماريا بوبوفا *

ترجمة عبوّد الجابري **

كتبت الفيلسوفة الفرنسية الكبيرة، سيمون فايل، قبل وقت قصير من وفاتها المفاجئة: “الانتباه هو أندر وأنقى أشكال الكرم“. وبعد فترة قصيرة، أثنتْ ماري أوليفر على حب حياتها، بملاحظةِ أنَّ “الانتباه دون الشعور … ما هو إلا تقرير“. بالنظر إلى قرونٍ من قصائد الحبِّ لأشخاصٍ عباقرة تجرأوا على الحب خارج نطاق الثقافة الضيقة لعصرهم، لاحظَ الشاعر جي دي ماكلاتشي أنَّ “الحب هو نوعية الاهتمام الذي نوليه للأشياء“.

لأنَّ انتباهنا يشكّل تجربتنا الكاملة للعالم – وهذا، بعد كلّ شيء، هو أساس كل التقاليد الشرقيّة لليقظة، الّتي تدرّب الانتباه من أجل تحسين جودةِ وجودنا – تنتهي الأشياء التي تحظى باهتمامنا خفية. ولكن بطريقةٍ عميقة، لتشكّل من نحن. نظرًا لأنّه لا تكاد تكون هناك حالة من الوعي تركّز الانتباه بشكل أكثر حدةَّ واكتمالًا على موضوعةٍ أكثر من الحب، فإنّ ما نحبّ ومن نحبّ هو الكشف النهائي عن ماهيّة “ما ومن نحن“.

هذا ما يستكشفه الفيلسوف الإسباني العظيم خوزيه أورتيغا إي جاسيت (9 مايو 1883 – 18 أكتوبر 1955) في سلسلة من المقالات التي كُتبت في الأصل لصحيفة (El Sol) في مدريد ونُشرت بعد وفاته بالإنجليزية بعنوان (في الحب: جوانب من موضوع واحد) /المكتبة العامة – تكريماً وتتويجاً فريدًا لتحقيق أورتيجا الفلسفي حول النقاط العمياء للثقافة الغربيّة، والتحيزات، وملامسة الأوهام الذاتية حول الحبّ، أي حول “من نحن ومانحن”.

لأنَّ انتباهنا يشكّل تجربتنا الكاملة للعالم – هذا، بعد كل شيء، هو أساس كل التقاليد الشرقية لليقظة، التي تدرّب الانتباه من أجل تحسين جودة وجودنا – تنتهي الأشياء التي تحظى باهتمامنا، خفية. ولكن بطريقة عميقة، لتشكيل من نحن.

عند تعريف الحب على أنّه ” الإحساس بالإدراك الروحي الذي يبدو أنه يلامسُ به روح شخص آخر، ويشعر بمحاورته، وقسوة أو لطف شخصيته”، يلاحظ أورتيغا أنَّ الحب يكشف “أكثر التفضيلات حميمية وغموضًا في تشكيل شخصياتنا. “، فهو يكتب:

هناك مواقف، لحظات في الحياة، يعترف فيها الإنسان، على حين غرّة، بأجزاء كبيرة من شخصيته المطلقة، من طبيعته الحقيقية. أحد هذه المواقف هو الحبّ. في اختيارهم للمحبّين [البشر] يكشفون عن طبيعتهم الأساسية. نوع الإنسان الذي نفضّله يكشف ملامح قلوبنا. الحبّ هو الدافع الذي ينبع من أعمق أعماق كائناتنا، وعند الوصول إلى سطح الحياة المرئيّ يحمل في طيّاته طميًا من الأصداف والأعشاب البحريّة من الهاوية الداخلية. يمكن لعالم الطبيعة الماهر، من خلال حفظ هذه المواد، إعادة بناء الأعماق المحيطية التي اقتُلعت منها“.

وعند تعريف الانتباه على أنَّه “الوظيفة المكلفة بإعطاء العقل بنيته وتماسكه“، يضعه أورتيغا في مركز تجربة الحب:

الوقوع في الحب”، هو ظاهرة الانتباه.

“حياتنا الروحية والعقلية هي مجرد ما يحدث فحسب في منطقة تحمل أقصى قدر من الإنارة. وماتبقى – منطقة الغفلة الواعية وبعد ذلك، العقل الباطن – ليست سوى حياة محتملة، أو تأهّب، أو ترسانة، أو احتياطي. يمكن اعتبار الوعي اليقظ هو الفضاء ذاته لشخصيّاتنا. يمكننا أيضًا أن نقول إن هذا الشيء يزيح مساحة معينة في شخصياتنا”.

بعد نصف قرن من وضع ويليام جيمس -أحد أعظم مؤثرات أورتيجا وأسلافه الفلسفية -الأساس لعلم النفس الحديث في بيانه “تجربتي هي ما أوافق على الحضور إليه“، يضيف أورتيغا:

لا شيء يميزنا بقدر ما يميزنا مجال اهتمامنا … قد يتم قبول هذه الصيغة: أخبرني أين يكمن انتباهك وسأخبرك من أنت”.

الوقوع في الحب”، في البداية، ليس أكثر من هذا: الانتباه ينصبّ بشكلٍ غير طبيعي على شخصٍ آخر. إذا كان الأخير يعرف كيف يستغلّ وضعه المتميّز ويغذّي هذا الاهتمام ببراعة، فإنَّ من يوليه الاهتمام يتبعه بآليّة غير قابلة لفك الالتصاق“.

ماريا بوبوفا

ومن المفارقات أنَّ السرد الثقافي الذي نقله إلينا الرومانسيون، يفترض أنَّ الحبَّ يوسّعُ ويكرّسُ وعينا بالحياة: فجأةً، يصبح كلُّ شيء مضاءً؛ فجأةً، كل شيء يغنّي، وأيّ شخص عاصر النشوة المسكرة للحبّ المبكّر لابدَّ أن يكون قد شعر بذلك، ومع ذلك يشير أورتيغا إلى أنّ هذا هو وهمٌ في الوعي، يخفي الظاهرة الفعلية للحقيقة، وهي بالأحرى العكس – كلُّ شيءٍ ملوّن بجوانب الحبيب، ضبابيَّةُ وضبط التفاصيل هي التي تمنح العالم واقعيته. يكتب أورتيغا:

لدى الشخص الواقع في الحب انطباعٌ بأنَّ حياة وعيه غنيَّة جدًا. عالمُه المختزل أكثر تركيزًا. تتلاقى جميعُ قواه النفسية للعمل على نقطة واحدة، وهذا يعطي جانبًا زائفًا من الكثافة الفائقة لوجوده“.

في الوقت نفسه، يمنح هذا الاهتمام الحصري الكائن المفضّل صفاتٍ مميزة … من خلال إغراق الشيء بالاهتمام والتركيز عليه، يمنحه الوعي قوَّة لا تضاهى من الواقع.  إنَّه موجود بالنسبة لنا في كل لحظة؛ إنّه موجود بشكلٍ مطلق، هناك إلى جانبنا، أكثر واقعية من أي شيء آخر. يجب البحث عن بقية العالم، من خلال صرف انتباهنا عن الحبيب … العالم غير موجود للحبيب فحسب، بدون شلل في الوعي وتقليل عالمنا المعتاد، لا يمكننا أبدًا الوقوع في الحب.

كتب أورتيجا قبل وقت طويلٍ من قدوم علماء الإدراك لدراسة ماهية الانتباه “المُميِّز المتعمّد غير الاعتذاري” لأنه يؤطّر تجربتنا للواقع من خلال الاقصاء المتعمّد:

الانتباه هو الأداة العليا للشخصيّة؛ إنّه الجهاز الذي ينظم حياتنا العقليّة. وعندما يصاب بالشلل لا يترك لنا أيّة حريّة في الحركة، ومن أجل إنقاذ أنفسنا، سيتعيّن علينا إعادة فتح مجال وعينا، ولتحقيق ذلك سيكون من الضروري إدخال أشياء أخرى في بؤرة تركيزه لكسر حصريّة الحبيب. إذا تمكنّا في نوبة الوقوع في الحب فجأة من رؤية الحبيب من منظور انتباهنا الطبيعي، فسوف يتم تدمير قوّتها السحريّة. ومع ذلك، من أجل اكتساب هذا المنظور، يجب أن نركّز انتباهنا على أشياء أخرى، أي أنَّه سيتعيّن علينا الخروج من وعينا الخاص، الذي يمتصّه تمامًا الشيء الذي نحبّه”.

لا شيء يوضح تقلّص العدسة هذا بشكل أكثر وضوحًا من التجربة المزعجة للخروج من حالة النعاس، من اللامبالاة – تجربة مألوفة لأي شخص ظهر من الافتتان أو عمّق الافتتان في حب البطلينوس (حيوان رخوي يلتصق بالصخور وتصعب إزالته عنها). يكتب أورتيغا:

عندما نخرج من فترة الوقوع في الحبّ نشعر بانطباعٍ مشابه لليقظة والظهور في ممرٍّ ضيّق مليء بالأحلام. ثم ندرك أنَّ المنظور الطبيعي أوسع وأكثر تهوية، وندرك كلَّ التماسك والخلود الذي عانت منه عقولنا المتحمّسة. نشهد لبعض الوقت لحظاتٍ من التذبذب والضعف وحزن النقاهة“.

ولكن على الرغم من المزالق المحتملة، يظلُّ الحب في الوقت ذاته أكثر التجارب الداخلية تأثيرًا في شخصيتنا. في إحساس يستحضر هذا السطر الرائع من الأمير الصغير – “ما هو أساسي، هو غير مرئيٍّ للعين“. – يعتبر أورتيجا ” كيف أنّ الحبَّ، غير المرئي للغاية بوسعه أن يكون سمةً أساسيَّة جدًا لإنسانيتنا، يصقل عدسة نظرتنا للعالم بالكامل:

” الأشياء المهمة تكمن وراء ماهو واضح “.

ربّما، هناك موضوعٌ واحد آخر أكثر عمقاً من الحب: ذلك الذي يمكن تسميته “المشاعر الميتافيزيقية“، أو الانطباع الأساسي والنهائي والأساسي الذي يتكون لدينا عن الكون، وهذا بمثابة الأساس والداعم لأنشطتنا الأخرى، مهما كانت. لا أحد يعيش بدونها، على الرغم من أن درجة وضوحها تختلف من شخص لآخر. إنّه يشملُ موقفنا الأساسي والحاسم تجاه كل الواقع، والمتعة التي يحملها لنا العالم والحياة. يتم تنشيط مشاعرنا وأفكارنا ورغباتنا الأخرى من خلال هذا الموقف الأساسي ويتم الحفاظ عليها وتلوينها. من الضروري أن تكون بشرة شؤون الحب لدينا، واحدة من أكثر الأعراض دلالة على هذا الإحساس البدائي، ومن خلال فهم الشريك في الحبّ يمكننا استنتاج رؤيته أو هدفه في الحياة. وهذا هو الشيء الأكثر إثارة للاهتمام الذي يجب التأكد منه: ليس حكايات عن وجوده، ولكن البطاقة التي يراهن عليها بحياته.

عبود الجابري

ومع ذلك، فإنَّ ثقافتنا لديها عمىً متعمَّد غريب عن كيفيّة تشكيلِ الحب للحياة والتعبير الخاص عن الحياة الذي هو عملنا الإبداعي – إنكارٌ غريبٌ للحقيقة الأساسية المتمثلة في أنَّه نظرًا لأننا نحبُّ بكل ما نحن عليه، فإنَّ حبَّنا يطبع كل ما نصنعه. (لقد كتبتُ في جزء كبير منه على اعتباره ترياقًا لهذا الوهم الخطير، مستكشِفًا كيف شكَّل الحب في قلب الحياة العظيمة الطريقة التي شكَّل بها هؤلاء الأشخاص العبقريون بدورهم فهمنا للعالم من خلال عملهم العلمي والفني). يشارك أورتيغا في هذا النفور من التضاؤل ​​الثقافي للحب كقوَّةٍ دافعة للعمل الإبداعي. ملاحظًا أن العديد من الأشخاص الذين يتمتّعون بقوة إبداعية غير عادية يميلون إلى أخذ حبِّهم “بجديَّة أكبر من عملهم – وهو نفس العمل الذي يتم الاحتفال بهم من أجله على أنهم عباقرة، مثلما هو خيارٌ عانوا في سبيله من السخرية من قبل معاصريهم والأجيال القادمة – فهو يوجه اللوم ضد هذا الحكم الثقافي المشترك:

وحدهم يثيرون الاستغراب، أولئك الذين لم يفلحوا في إنتاج عمل عظيم يعتقدون أنَّ العكس هو السلوك الصحيح: أخذُ العلم أو الفنِّ أو السياسة على محمل الجدِّ وازدراء شؤون الحبِّ على أنَّها مجرَّد حماقات“.

يقول أورتيغا بحسرة:

نحن لا نضعُ في الاعتبار التأثير الهائل الذي تمارسه محبتنا على حياتنا.

لكن بينما يكشف الحب عن هويتنا، فإنَّه يشكّل أيضًا هويتنا، وينحت شخصيتنا ويلوّنها“. لقد أضاء قرن علم النفس الذي بدأ منذ عهد أورتيجا إلى أي مدى “تعتمد هويتنا ومن نصبح، جزئيًا، على من نحب“. يستحوذ أورتيجا على هذه القوة التحويلية للحب، وتوافقًا مع نظرية كورت فونيغوت القائلة بأنَّك ” يمكن أن تكون في حالة حبٍّ، حتى ثلاث مرات في الحياة”، يكتب:

” تختبر الشخصية في مسار حياتها تحوُّلين أو ثلاثة تحوّلات كبيرة، والتي تشبه مراحل مختلفة من نفس المسار الأخلاقي … يبدو أنَّ كياننا الأعمق، في كل من هاتين المرحلتين أو المراحل الثلاث، يدور بضع درجات على محوره، يتحول نحو ربع آخر من الكون ويوجه نفسه نحو الأبراج الجديدة.

 

* ماريا بوبوفا: كاتبة بلغارية، وناقدة، تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

** عبود الجابري: شاعر ومترجم من العراق، يقيم في الأردن منذ عام 1993، له سبع مجموعات شعرية منشورة، ترجم، وما يزال يترجم العديد من الدراسات النقدية، والنصوص الإبداعية المنشورة في الصحف والدوريات العربية.

خوزيه أورتيغا جاسيت

José Ortega y Gasset

 (1883-1955)

فيلسوفٌ إسباني، غزير الإنتاج ومتميز في القرن العشرين.

 ومنظّر اجتماعي/ وكاتب مقالات، وناقد ثقافي، وجمالي، ومعلّم، وسياسي. صدر له العديد من المؤلفات منها: تأملات في كيشوت (1914)، أفكار حول الرواية (1925)، تجريد الفن من إنسانيته (1925)، ما هي الفلسفة؟ (1929)، ثورة الجماهير (1930)، وتطور النظرية الاستنتاجية (1948). كما كتب مئات المقالات في الصحف والمجلات. تم جمع أهمها في اثني عشر مجلداً، ترٌجمت العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.