العرض الأداء الجسدي بين رؤية المخرج الإنكارية والحداثة المباشرية 

ورشة فن - مسرح

0 138

يوسف السياف – العراق

رغم المحاولات المتكررة والأحلام لتأصيل مسرحنا العربي وايجاد هوية له، إلّا أن الحلم كان أشبه بخيال، بل على العكس فكرة التأصيل تحولت إلى تعميم للنفور والتدمير لمفهوم الهوية والهروب من التاريخ واركيولوجية الحضارة العربية، لا سيما خطاب عروض المسرح العربي الطليعية، إذ أن الأمر بات مستحيلاً في وقتنا الحاضر، نتيجة لتوغل الحداثة السائلة وتدمير المفاهيم والارث الحضاري، والابتعاد عن الفضاءات الدينية واركيولوجيتها الاجتماعية، وانكار فلسفة الحق، والانقلابات الفلسفية، وموت الأصل، والنزوح نحو التكثيف، والانضغاط الزمكاني، وهيمنة النفائس الإلكترونية، وسطوة التكنولوجيا، وطغيان مكننة تكميم الأيادي العاملة. إن كل هذا السرد المفاهيمي كان سبباً رئيساً في انعدام هوية المسرح العربي، إذ ان هيمنة الفكر الأجنبي واعرابه التدميري، وإعلان موت الثوابت، وتهديم الشواخص، وضياع الفلسفة النسقية، ومعاداة الفكر السياقي، وتهميش ضروب الفلسفة الحججية، والتعالي على الأسالة اليوتوبية،  ونسيان المغالطة السفسطائية،  ومغادرة الميتافيزيقي وجوهر المثالية والبحث الماورائي، وتذبذب الأفكار الوجودية في البحث عن الكينونة والعدم والحرية، واعادة بناء الفلسفة، واستحالة التحديد بعد أن غابت التجربة العلمية وابتعادها عن النظرية، واستفحال الأفكار المدنية، وتوسع الدراسات الانثروبولوجيا والتفكيكية الما بعد بنيوية، والتوجه نحو المباشرة والحضور السائل للجمل السسيوثقافية والازاحة الاقتصادية والتفسخ الديني، وإعلاء مفهوم الثانوية والانقطاع والجزئية والتفكير بالهامش واللا تمايزية، وهيمنة الفضاء السيبيري، كل هذه المفاهيم الفكرية لأبستيم ما بعد الحداثة وما بعدها والتي بدورها انتقلت عبر الفضاء الكوني والشعاع الكهرومغناطيسي إلى عالمنا العربي الذي بات فيه الانسان في ظل تكنولوجيا الاتصال الذي اختزل العالم بقتلها لمفهوم المسافة وانتفاء الزمان وبلاغة الثورة الرقمية الطوباوية خاضع لميتافيزيقيا الغياب، وسائر باتجاه مفهوم (الهابيتوس) ومستقبل للمعالجات والمقترحات التي تصدرها الجمجمة الاجنبي وتقاطع العظمتين تحتها ببوليفونية، ليدخل العقل العربي ضمن محيط (كايوسية الثقافات واناركية المجتمعات/ الاجنبية) و(اركيولوجيا الحضارة العربية)، لتنصاب القوى الادراكية للعقل العربي بطي زمني أشبه بالحالة الذهنية،  ليعمل من دون وعي على تهجين هويته والتخلي عن ثقافته، نتيجة قلة الكليات وزيادة الجزئيات لكهف العقل العربي، ونتيجة للوقوع في شباك التطبيع واستعارة طروحات تلك الجمجمة،  يمكن القول ان الهوية الثقافية العربية المتماسفة في تناص وتعالق مع روبيك الثقافة الاجنبية، وهذا ما انعكس بدوره على مخرجات جمجمة العقل العربي وتأثيثه لمجتمع مؤسلب ومجرد من ثقافته، وعلى الرغم من استفحال موجة الما بعد بعديات عاد الفكر الأجنبي للبدايات من أجل إعادة تأهيل الحضور الإنساني، وهذا ما انعكس على تجارب أغلب مخرجي المسرح الطليعي لا سيما عودتهم للطقوس البدائية الشرقية، عكس ما نشخصه عن مسرحنا العربي المتناسي لعمق وتاريخ حضارته، والمكبل بدوامة الترجمة، والماسح الضوئي للتقليد والاستعارة، بحيث تصل نسبة التشابه والتطابق في الشكل أو المضمون إلى حد السوريالي.

إذ أن بعض المخرجين العرب الرواد منهم والطليعيين ولا نستثني المعاصرين قد تعاملوا مع موجوداتهم الفكرية والجمالية وبصرياتهم التشكيلية تحت يافطة (خطاب العرض المسرحي)، مخرجين اناركيين بلا هوية اخراجية،  تلك التجارب المعدة وفق مفهوم الفوتوريالزم، والأدهى من ذلك تتوج هذه الجماجم المعطوبة بجوائز قيمة، وتلمز بأشرف الألقاب، ويتقمص أصحابها دور (السي سيد) تلك الشخصية التي نحتها (نجيب محفوظ) في ثلاثيته، وهكذا دواليك إلى أن نكتشف بقاء الناقل الحركي لحجلة المسرحية العربية على حرف الراء بالإنكليزي للرجوع بنا على متن الحجلة إلى ملامح مسرحنا العربي شبه الدرامية (الاحتفالات المأساوية في الشرق الأوسط، الزار، عاشوراء، مجالس الوعظ، مجالس التهريج، خيال الظل، الحكواتي، صندوق الدنيا، القره قوز)، ونبقى نترحم على الماضي.

واقع مسرحنا العربي وما وصل اليه من ضياع وتشتت واحباط، وغياب الجمهور، وهيمنة المهرجانات وربوبية أصحابها، واضمحلال الورش، وغياب المهنية، وانعدام الهوية، اسهاب بلا معنى لمجمل ما سردته، أجده قاسيا رغم واقعيته، ومستفزاً رغم صراحته في بعض التجارب التي كانت مسروقة بقضها وقضيضها (شكلاً ومضموناً) من تجارب أجنبية سبقتها، إلا أنني سأتجه في ما يلي نحو تسليط الضوء على إحدى التجارب المسرحية العربية، اذ انني لم أعمم،  فهناك تجارب حقيقية لا بد من الركون اليها، والتعريف بها ونكرانها رغم قناعتي بانعدام هوة المسرح العربي الطليعي والمعاصر، إلا انني أجد بان من المنصف تناول تجربة عربية وصلت إلى العالمية كعينة قصدية من مجتمع بحث يصل إلى عشرات التجارب الحقيقية محلياً والمئات منها عربياً.

وبذا نسلط الضوء على تجربة عربية ذات مرجعيات عراقية بعمق منشطر بين التأصيل والتهجين والبحث عن الهوية، ناغمت حركة المسرح العالمي رغم احتياجنا لسرعة حزمة غاما الضوئية لملاحقتها، الواضع لمصطلح (الرقص الدرامي) عربياً (تطبيقا وتنظيراً) كمحاولة لإيجاد صياغة عربية للرقص الحديث/المعاصر، والمشتغل ببوليفونيا سمعبصرية على خمسة عناصر اساسية في تجاربه المختبرية، وهي: (لغة الضوء، لغة الكلمة، لغة الحركة، لغة الفضاء، لغة الموسيقى، لغة تكنلوجية/ فيديوية)، والمؤسس لمجموعة (اكيتو) الدولية ومجموعة (الرقص الدرامي العراقية) تلك الاخيرة كأول مجموعة رسمية عربياً تبحث في هذا المضمار، والمؤسس لفرقة (مردوخ)، استاذ الرقص الدرامي ومعلم البالية والجاز وفن اليوغا، صاحب مشروع (خطوة المستقبل) العربي، المخرج والكيروكراف (بابلي) الأصل (وعربي) التجربة (وعالمي) الشهرة والتجربة (طلعت شاكر السماوي)، فقد بحث عن علاقة اركيولوجية ثقافية لخطاب تجاربه المسرحية، محاولاً الخروج برؤية معاصرة بكر ومتفردة في مسرحنا العربي، لينتج عروضه الأدائية الراقصة وفق لوحات غنية بفضاءات متعددة، وأزمنة مختزلة، وأمكنة متعالقة، بروحية سياقية تعتمد توظيف اللغة شريطة اختزالها، إذ يمكن أن تعد تجارب (السماوي) المسرحي هي تجارب خاضعة إلى رؤى ما بعد حداثة مباشرية، وفق أداء جسدي متعالق مع تقنيات (شامانيا)، إذ يكون المؤدي مرشدا للهيمنة التي تتجاوز القدرة الادائية المؤسلبة، وتنبي الهرمنيوطيقية،  واركلوجية جسد المؤدي وقدسيته، إذ نجد أن تقنية أجساد مؤدية قريبة من (الشامانية) المتعالقة مع الصوفية والقريبة من الكهنوتية ذات الفضاء السياسية، فقد استعاره الكثير من المخرجين والكيروكرافيين العرب المختصين بـ(الرقص الدرامي) لا سيما من تخرج من عباءة (السماوي) المختبرية، ولحنه الهوياتي، وعمقه الثقافي، إذ لا أريد التشخيص بقدر التنويه، كون اللحن المسرحي المحلي المعاصر لعروض (الرقص الدرامي) نجد أغلبها قد اقترب من اسلوب (السماوي)، فلو سلطنا الضوء على مسرحية (فوق تحت.. تحت فوق) واستعرضنا ابعادها الجمالية والفكرية، ووصفها للثقافة الشرقية التي يحملها الجسد، سيتوجب عليه ترك القارة للسفر برحلة فحصية ناقدة تفهرس تقنيات جسد المؤدين، لتكشف عن مدى التقارب/ التشابه ما بينها كتجربة بكر/أصل وبين بعض التجارب المسرحية الأدائية الراقصة التي لحقتها، إذ أن هذه التجربة المهمة المقدمة باسم (مجموعة اكيتو الدولية) على خشبة (المسرح الوطني العراقي) في (بغداد) عام (2004م) من تأليف وإخراج (السماوي).

تبنى المتن الحكائي للعرض ثيمة موجودة داخل قصة مستلهمة من كتاب (كليلة ودمنة) ذات اصول هندية ترجم إلى اللغة (الفهلوية)، ومن ثم ترجمة (ابن المقفع) إلى العربية، تلك الحكايات البشرية المنطوقة بلسان الحيوانات استفزت قريحة (السماوي) واشتغل عليها، لا سيما مفهوم (السلطة وقانون الغابة في عصر العولمة)، وقد طرح ضمن خطابه المسرحي ديالكتيكية تطور الإنسان ضمن فضاء درامي أشبه بغابة تحاكي العصور البدائية، غابة صممت أشجارها من الحبال كـ(دال) يحمل مدلولات كثيرة منها: (حبال المشنقة) و(الحبال السرية التي تصل الاجنة ببطون أمهاتهم) و(وسيلة للتسلق من أجل الوصول إلى كرسي السلطة) الموجود ضمن فضاء العرض، لتكون هذه الغابة بيئة خصبة متعددة الرفاءة ومساندة لمؤدي العرض.

قدم لنا (السماوي) لوحة ادائية راقصة لمراحل تطور الإنسان، ومن ثم التأثيرات الايديولوجي على سلوكهم الفطرية، ليبث لنا كم هائل من العلامات والرموز الدلالية التي تترجم تمرحلات تطور الانسان مروراً بعصر العولمة وتشكيل البرلمانات الحكومية الفاسدة التي أطاحت بمفهوم الإنسانية حسب ما يطرحه العرض، ليتبدد مفهوم التشاركية الطافي في بداية العرض وتتفكك المجموعة وتتكتل إلى ربايا عبثية، وتبدأ الصراعات فيما بينهم من أجل السلطة والهيمنة على عرش الرئاسة، مما أضطر سياق خطاب العرض الرجوع إلى البيئة المفترضة لتلك السلوكيات وعنوانها الحقيقي (غابة الحيوانات)، العودة إلى البدائية القديمة (محاكاة الحيوان) بعد أن أبحر بنا العرض صوب التطور المعرفي والتكنلوجي، العودة نتيجة الرجعية والعقل المتخلف المتعطش للدماء والهيمنة والسلطة ومحاربة الاناركية.

إذ يسرد الفضاء البصري للعرض بعداً مفاهيمي لتكوين علاقة تواشجية بين المحيط المكاني وتقنيات أجساد المؤدين الشامانية لتكوين الاندماج البصري، الأمر الذي يبرر استعارة حالات (اثنوغرافية) من شأنها وصف عادات وتقاليد بعض أفراد المجتمع، فالحضور الطاغي لهذه الامتدادات بين قديمها وحديثها هو الأساس السسيوثقافي الذي أسس له (السماوي) ضمن أيقونة تحاكي التحولات المفاهيمية للمجتمعات العربية بعد سكونها، إذ ان تقنيات اداء الجسد – منذ الوهلة الأولى للحركة في العرض بعد سكونها الترقبي لكشف المكان في المشهد الاستهلالي – ساهم في وصف الحياة البدائية للإنسان،  وذلك من خلال محاكات المؤدي لحركات الحيوان وعلاقة الانسان البدائي ببيئته،  إذ أنَّ كل مؤدي على خشبة المسرح وفي أول حركة قام بها وصف طبيعة الانسان البدائي وتقنية جسده، لا سيما المشي على الاطراف العليا والسفلى معاً كالحيوانات،  والتغوط برفع إحدى الأرجل،  والحركة الارتدادية (البايو ميكانيكية) عند شعوره بالخوف.

فما حركات المؤدين الوصفية لمحاكاة الحيوان، إلّا تقنية أعطت جسد المؤدي بعداً (إثنوغرافياً) لا سيما بديالكتيكية اللوحة وتعالقها مع اللوحة التي تليها بتقليدهم لتقنية أجساد حيوانات مختلفة، كمد اليدين وتحريكهما كرقصة الأمواج لمحاكاة حركة أجنحة الطيور، وانخفاض الصدر واليدين بتقديم إحداهما حتى ملامسة الجزء الأمامي للجسد الارض أثناء المشي أو التوقف على الأطراف الأربعة لمحاكاة حركة الحيوانات المفترسة، أو ارتفاع وبروز الصدر باستقامة الجذع وملامسة اليدين للأرض مع الجلوس في وضع القرفصاء وتكرار حركة القفز للإشارة كمحاكاة لحركة القردة، فما هذه المحاكاة واستعارة تقنيات جسد الحيوانات إلّا معالجة اخراجية (اثنوغرافية)، وقد استمر هذا الاشتغال التقني الأدائي الراقص والمعالجة الاخراجية حتى بعد انفراد تلك الأجساد واتاحة الفرصة لأسلبة النمطية/التقليدية الحركة المباشرة، وتجريد الحركة التعبيرية وأسلبه تقنياتها، لا سيما بعد أن بدأت الأجساد بالانسلاخ عن تعددية الفعل المشترك، واعطاء مساحة لأحد المؤدين لتقديم لوحة تعبيرية راقصة يمتزج تقنية فيها (الجسد الإثنوغرافية) مع جسد المؤدي وثقافته المعاصرة لإنتاج هوية ثقافية حاملة لبعد (إثنوغرافي)،  إذ أن حركة اليد اليمنى لأحد المؤدين وهي مرفوعة إلى الأعلى مع تقديم الكف إلى الأمام ما هي إلا حركة مستلة من الرسوم الموجودة في الألواح الآشورية التي وصلتنا عن (حضارة وادي الرافدين)، وتعني الثمر، فقد امتزجت اركليولوجية الحركة (الإثنوغرافية) وظيفيا للجسد مع الرقص الدرامي المعاصر لإنتاج جسد ثقافي بمحمولاته التقنية (الاثنوغرافية) يطوي آلاف السنين.

بالإضافة إلى التدفق العلاماتي من حيث الاشتغال على تقنيات (الجسد الإثنوغرافي) في المشاهد الانفرادية (الصول) الغنية بحركات الأكروبات واليوغا الشرقية وكمال الأجسام، والدوران على ساق واحدة، حركات زحف الأفعى، ورمي السهم، وقفزة الكنغر، ومشي القرد على اطرافه الاربعة،  وتقليد انقلاب ذيل العقرب،  وغضب الغوريلا بضرب الصدر بكفوف اليدين،  ومجمل هذه التقنيات المستعارة  سعى (المخرج) إلى مزجها ضمن سياق درامي للخروج بأداء تعبيري راقص يعتمد تقنية الكولاج لعلامات (الأجساد الإثنوغرافية) الشرقية الحاضرة والمتحولة عبر الموروث الاجتماعية المتعالق مع الهوية الثقافية، إذ أن تلك (الأجساد الإثنوغرافية) كانت ترقص بحركات إيقاعية مدركة للعلاقة ما بين الانتماء الشرقي لأصل الحركة وما بين تقنية الجسد المعاصر، لإنتاج تعددية تقنية وظيفية (إثنوغرافية).

فقد انصب جسد المؤدين على آلية انتاج الحركات والإيماءات المتعددة التي تساهم الرسوم على الجسد والوجه انتاج رموز لها دلالات تساهم في انتاج فعل أدائي مقروء لتلك الأجساد، إذ نجد أنَّ هنالك رسوماً قد طلت بألوانها وجوه المؤدين لتحاكي لغة أجسادهم وتترجم سلوك بعضهم العدوانية، لا سيما أولئك الذين هيمنوا على المكان وفرضوا سلطتهم، فمن خلال علاقة تلك الرسوم المخيفة وتعابير الوجه والحركات العدوانية المفرطة أنتجت لغة درامية عبرت عن فكرة الصراع الذي نشب بين أبناء الجنس الواحد.

أدرك (السماوي) حجم المسؤولية في كشف عيوب المجتمع والتصدي لها ومعالجتها، لا سيما تبني مفهوم التشاركية بين الفرد والجماعة في تفاصيل العيش ضمن حدود البيئة الاجتماعية العربية والانتماء الحقيقي للآخر، فبعد أن انسلخ أحد المؤدين وهو يحاول تفريق تلك المجموعة والهيمنة عليها وقيادة أفرادها،  بدأت الأجساد بالنفور وعدم الاستقرار،  رغم المحاولات المتكررة لإرجاعهم ضمن الاداء الجماعي، إلَّا أنَّ ذلك الجسد المنسلخ حصل على مساعد من جسد تابع، وبدأ بالرقص التعبيري ومحاكاة تقنية جسد الحيوان، ليتحول الجسد الانساني إلى جسد هجين تشترك صفات الحيوان وحركاته مع سلوك الانسان، لا سيما حركة الأيادي والتواء الجسد وزحف الأفعى للدلالة على احتقان الجسد بالسلوك العدوانية، وما سيميائية هذه الحركة كرمز أسطوري قديم إلا تعبير عن (الشر والسحر) رغم اختلاف الثقافات، إذ يرى أخرون بأنها ترمز إلى الخصب، إلَّا أنَّ توظيف (السماوي) لهذه الرقصة، كان دليل واضح لتبني تلك (الأجساد الإثنوغرافية) وبقصدية واضحة لمفهوم الشر.

إلَّا أنَّ بقية (الأجساد الإثنوغرافية) وحركاتها التي انبثقت من خلال التفاعل (البروكسيمي)، نتيجة أحساس تلك الأجساد بقدوم الشر المنسلخ من نفس المجموعة، وشعورهم بالخوف، مما أدى ذلك التفاعل إلى إنتاج أداء جسدي (إثنوغرافي) تقني منتج لحركة سريعة تعبر عن الشعور بالخوف والرهبة المفرطة من الآخر العدواني، مما ادى ذلك إلى اكتسابهم بعض السلوك العدواني، فقد إنماز الأداء الجسدي التعبيري بطقسية التأمل والسكون الممزوج بذبذبات ميكانيكية مكتسبة في محاولة المؤدين للوصول إلى الكرسي المتدلي في وسط المسرح،  تلك المنطقة التي كانت مصدر قوي للضوء (العولمة) في بيئة توحي بالغابة وضبابية النظر، إذْ أنَّ (السماوي) قد كون تشكيلا جسدياً بعد طوافهم حول (الكرسي) وبأداء حركي (إثنوغرافي) مستعاراً من طقوس العبادة (الحج) في الديانة الإسلامية، متخذاً من الكرسي إلهً مقدساً يعبدون، إذ أنَّ حركة الجسد من خلال الجلوس على الأرجل، وانحناء منطقة الصدر مع مد الذراعين إلى الأمام لملامستهما والجسد للأرض، أعطت تقنية (إثنوغرافية) مرموزه للتقنية (السجود) وخضوع للإله كعبادة في أغلب الديانات، فبعد التقدم الحضاري ومغادرة الحياة البرية والدخول في زمن العولمة وهيمنة المكننة، حاول (السماوي) محاكاة الماضي والحاضر بديالكتيكية أحداثه المتعاقبة من خلال تقنية أجساد المؤدين المتعالقة أدائية ما بين  المحلية والشعبية والتراثية، وما بين العالمية المكتسبة عبر تلاقح الحضارات، إذ أن هذا التحول نتيجة سلوك بعض الجماعات البدائي المتبني لقانون الغابة الساعي نحو العودة إلى زمن العبودية والسجود للصنم، رغم اكتساب الأداء طابعاً تأملياً، لا اللوحة ما بعد الأخيرة عندما بدا المؤدون ينسحبون من تلك البقعة الموجودة في وسط وسط المسرح، للعودة إلى موطنهم الأصل (الغابة)،  والرجوع إلى الرقص الجماعي الموحد، فقد ساهم الجسد في إنتاج إيقاع صوتي يساعد المجموعة على ضبط حركاتهم وتوحيدها، من خلال احتساب زمن افتراضي، وفي لحظة معينة متفق عليها تتحرك الأطراف لتضرب الكفوف بعضها ببعض، لإصدار صوت (تصفيق) يعد بمثابة أمر لتغيير الحركة، أو تغيير المكان وخلق إيقاع للرقص، وما هذه الرقصة التي يساهم الجسد في إنتاج أيقاع معين لها إلا طقوس جماعية أو فعاليات كرنفاليه نجدها موروثة من الثقافات القديمة، ولكن قدمها (السماوي) بتقنية جسدية معاصرة، وقد ساهم الجسد أثناء تقييد اليدين وتشابك الكفين خلف الضهر في وصف شواهد (السجن)، وممارسات عملية سلب الحقوق بالقوة، وقمع معارضة الشر، كنظام سياسي في التعذيب له جذوره التاريخية الممتدة من الألفية الأولى قبل الميلاد في (بلاد وادي الرافدين) ويمارس إلى الآن، وبنفس التقنية الجسدية، تقييد كفوف اليدين وانحناءة الضهر وتقارب الأرجل فيما بينها عند المشي، إذ أنَّ هذه الصيغ الأدائية التي دخلت الإيماءات الجسدية في ترسيمها تعد صيغ ادائية هوياتية.

ونتيجة لاكتساب الأجساد المؤدين صفات حيوانية عدوانية نتيجة التفاعل البروكسيمي لتلك الاجساد مع عناصر الشر، وبرغم الفوارق في التقنية الجسدية إلَّا أنَّ الأداء ينم عن تفاعل حميمي مشع، للهيمنة على الآخر وابقائه تحت رحمتهم؛ إذْ أنَّ الجوع البدني والفقر الفكري في ظل الحكومات العربية المستبدة، أرغم الأنسان على الهروب من واقعه، أو البقاء وانتظار الموت، من خلال رمزية (الأداء الجسدي الإثنوغرافي) لتلك الممارسات اليومية للإعدامات المتكررة في حق أبناء الشعوب العربية لا سيما الشعب العرق، إذ ساهم الجسد في وصف تلك الممارسات التي أصبحت ثيمة تميز طبيعة عيش أبناء الشعب العراقي عن غيرهم من شعوب العالم في ظل تعاقب الحكومات القمعية، إذ لا خيار لديهم أمام صوت الحق، إما الإعدام أو الانتماء لنظام جائر، أو الهروب نحو المجهول، فقد اتخذت صيغ (الأداء الجسدي الإثنوغرافي) للوحة الأخيرة وما قبلها مزاوجة ما بين المفهوم الشعبي للإعدام كثقافة محلية، وما بين الهروب أو الهجرة كثقافة عربية، ألَّا أنَّ اللوحة ما قبل الأخيرة، وبعد وصف الجسد تلك الممارسات اللاإنسانية بحق الشعب، إذ اتخذت صيغ (الأداء الجسدية الإثنوغرافي) طابعاً طقسياً شرقياً بامتياز، فقد حاول (المخرج) أن يقدم مشهد يحاكي تلك الفاجعة من خلال استحضار الموروث الشعبي لمراسيم العزاء، إذ تعد طقوس التعزية وتقنية اللطم وتعابير الحركة المرموز لاسيما اليد المسبلة كدلالة عن الصبر بل وانتظار الثورة، فقد سعى (السماوي) لتقديم تلك الطقوس كفوارز ثقافية، ولكن بتقنية أدائية مؤسلبة وبتكنيك ميكانيكي، من أجل اعطاء الحركة بعد اجتماعي وعمق ثقافي، إلاَّ أنَّ رمزية أداء الجسد لا سيما في اللوحة الأخيرة والدعوة نحو العودة للثقافة البدائية القديمة من خلال تقنية أجساد المؤدين وقدرتهم العالية على تسلق تلك الحبال هرباً من ألم الحاضر وجبروت المسوخ والحيوانات الآدمية التي حولت بلداننا العربية إلى بيئة أشبه بالغابة، فما اشتغالات (السماوي) على الجسد إلًا مهاره ودربة ودراية يمتلكها صانع التكوين البصري ومنظم اللوحات الحركية وحرفته ومعرفته لإبعاد الجسد ومدركاته الحسية ودلالات الايماءة والحركية وفق مرجعياتها الثقافية، فقد حاول الكشف عن العلاقات ما بين (الأداء الجسدي الإثنوغرافي) وما بين ثقافة المؤدي المحلية الحياتية اليومية، رغم امتدادها التاريخي بالثقافة القديمة، كثقافة موروثة ومكتسبة آنية، إذ تمكن الجسد من تلاقح ثقافة البلد بمترحلاتها عبر التاريخ، وانتاجه بتقنية مسرحية جمالية يغلب عليه تقنية الأسلبة وتجريد شكلها الظاهر بالاعتماد على طابع الكولاج في وصف الحركات والايماءات بلوحة مكتنزه بالرموز والعلامات، لا سيما عند تعددية توظيف مفهوم (الإثنوغرافية) لأداء الجسد. وبذا تعد هذه التجربة باكورة لأغلب تجارب المخرجين العرب من بعده.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.