انتزاع اللحظات لذاكرة الغد..المصورون في محنة الكورونا

ورشة فن - فوتوغراف

0 1٬116

 أثير السادة – السعودية

الجائحة التي حاصرت كل شيء في هذا العالم، حاصرت أيضاً خيال وأحلام المصورين الفوتوغرافيين. ساعات الحجر المنزلي، وحظر التجول، ومنع التجمعات، جعلت من فرص التصوير ومناسباته شحيحة للغاية؛ لم تعد الكاميرا تحظى بحريتها التامة في الحركة كما هو الحال مع البشر. الذين كانوا يطمعون بمهام تجلب المال في مواسم الأعراس، وحفلات التخرج؛ خاب أملهم بعد أن صارت مناسبات الخطوبة والزواج تقام بلا ضجيج ولا حضور، ولا طوابير للمباركين، وبعد أن جرى الغاء الامتحانات، وإنهاء الموسم الدراسي بلا صور لما بات يعرف بحفلات التخرج والنجاح، كذلك المشاريع التجارية اختارت أن تذهب لخياراتها المتاحة عبر منصات التواصل، بعيداً عن عدسات المصورين الاحترافية. هواة تصوير الحياة اليومية و”اللاندسكيب” باتوا في حيرة من أمر هذه اليوميات التي لا تحفل بالكثير من الحياة، ولا تعرف صداقة مع اللحظات الذهبية للضوء؛ فضوابط المنع تحول دون الوصول إليها.

مناسبات المصورين، كباقي المناسبات، كانت عرضة للتعطيل هي الأخرى؛ كالمعارض الفوتوغرافية، والمحاضرات الجماهيرية، على غرار الغاء الحفل المصاحب لإعلان نتائج مسابقة الصحافة العالمية للصور، وتأجيل معرض فوتو لندن العريق، وسواه من المناسبات المهمة دولياً. ولا شيء استثنائي في ذلك، باعتبار أن قطاع التصوير، وأهله هما جزء من هذا العالم المحاصر بقلقه؛ من هذا الوباء، غير أنها تدلل بوضوح على اتصال عالم الصورة بالحياة بنحو أو بآخر، وأن حياة الصورة من حيوية هذا العالم وانتعاشه وسلامته.

أحاسيس المصورين وعاداتهم كانت أمام تحد طيلة المدة التي مضت، فطقس التصوير هو بمثابة تمارين يومية للكثيرين منهم، أو على الأقل لحظات ممكنة لاقتناص الفرص؛ وطقس التواصل الذي بات جزءاً من عملية التصوير جعلهم في رغبة دائمة للحضور في فضاء الناس عبر الفضاءات الافتراضية. هذا الأمر دفع باتجاه ظاهرتين بارزتين خلال هذه الأزمة؛ الأولى هي تدافع المصورين للحديث عن تجاربهم عبر حوارت حية، وتقديم شروحات ودروس، والتي تأتي في سياق الهبة العارمة لاستعادة الحياة عبر بدائل التواصل؛ والثانية هي باستعادة الصور القديمة وإعادة عرضها وترميمها حتى، وهي محاولات منذورة لإيحاء حالة التواصل أكثر منها لإنعاش الصورة بالتحديد.

        في قبال هاتين الظاهرتين الواسعتين، كانت هنالك تجارب متفرقة هنا وهناك، تحكي عن قلق المصور، ومحاولته التعبير عن حضوره في المشهد الإنساني والثقافي والفني خلال يوميات الأزمة، إضافة إلى السعي للتأكيد على سعة الطاقة التعبيرية للصورة الفوتوغرافية، ومرونتها في التعاطي مع هذا المشهد الكوني الاستثنائي، عبر الاقتراب فنياً من تمثلات هذه الأزمة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً؛ تجارب أرادت أن تتنزع من لحظات القلق والترقب والألم؛ مفارقات وتحولات وبيانات تصلح أن تكون ذاكرة للغد، مستمدة من إدراكها وإحساسها لوقع اللحظة الكثير من النبض الحي ليوميات تنزلق بنا إلى حدود الارتباك.

يوميات السرد البصري

هذا الانشغال بقيمة الصورة في الذاكرة هو ما دفع  James Wrigley ، على سبيل المثال، لتدشين أرشيف مفتوح لتوثيق يوميات الجائحة من خلال عدسات أكثر من ثلاثين مصوراً عبر العالم، مشدداً فيها على قيمة السرد في تعضيد النص البصري هنا، حيث أوصاف الصور لا تبدو كتلة صامتة بل نصوص مصاحبة للصور ومتقاطعة معها. يبدو المشروع ذاكرة مفتوحة على أحوال الناس، وشواغل أهل الصورة في هذه الأزمة؛ نتعقب فيها صمت الشوارع، وغرف المرضى، ولحظات العزل المنزلي، وصور التباعد الاجتماعي، والكائنات الرابضة خلف كماماتها، واللقاءات الافتراضية في المنصات الالكترونية، أشياء صغيرة وكبيرة، وظيفتها الإشارة إلى فعل الجائحة في مختلف اتجاهات الحياة.

الزجاج يكشف حيوات معزولة

يوميات الشارع انتهت في ظل الأزمة إلى يوميات البيوت، والغرف المغلقة. هذا ما تسعى Gail Albert Halaban للتذكير به في تجربتها، وهي تتعقب حياة الناس خلف النوافذ في لحظات الاغلاق التام، كامتداد لموضوعها الأثير الذي يتسلل إلى ثنايا الحياة من خلال شفافية النوافذ في إيطاليا. بالمثل، صنع المصور Gabriele Galimberti، وهو يوثق الحياة من خلف النوافذ والأبواب في البيوت المعزولة بإجراءات الحظر الكلي في ميلان؛ يرغمنا على مطالعة دفاتر الحيرة من على بعد لوجوه تقف خلف قلقها، تتراءى المسافة التي يتركها بينه وبين هذه الوجوه كلحظة تأمل عميقة في تفاصيل اللحظة والمكان، بها يعيد تعريف معنى العزلة والإغلاق التام.

 

 

الإحساس البكر للصورة المتأرجحة

(1000) عائلة صينية هي واحدة من بواكير التجارب التي تبنت الصورة كخيار فني وثقافي لتدوين يوميات المرض؛ فالصين التي شهدت الانطلاقة الأولى لوباء كورونا في العالم بنهاية عام ٢٠١٩، عاشت لحظات المرض بأكثر كثافة وعمق. عايش فيها الناس الإحساس البكر للكثير من التداعيات المصاحبة لموجة الوباء؛ الأمر الذي حرض الفوتوغرافيين في هذا البلد لإطلاق مبادرة فوتوغرافية لرصد الوجه الإنساني لهذه المرحلة: مشاعر الناس وأحوالهم، خواطرهم وهواجسهم، حزنهم وفرحهم، التفاصيل الصغيرة للحياة خلف الجدران في يوميات الحظر. وقد حظيت المبادرة بعدد كبير من الصور التي تتأرجح في دوافعها ومحتوياتها، ما بين الاحتفاء بالألم والتذكير بالقوة والصلابة، وبين التشديد على التماسك وبين نقد السلطة، والكثير الكثير من الصور التي تصف أحوال الأزمة بمثل ما تصف أحوال المصورين.

قبل أن يطيش، القبض على ماء المعنى ولحظته

أيقظت الأزمة شهوة السرد لدى المصورين عموماً، لا لمخافة من ضياع المعنى، لكنها أيضاً لتثبيت اللحظات التي قد تطيش في غياب التفاصيل. رأينا تقارير مصورة تنتخب من مشهد الحياة اليومية صورها الخاصة؛ لتروي عبر اللغة ما توارى خلف الصورة من أحداث وحوارات. تصبح النصوص الكثيفة المحيطة بالصورة ذريعتها في الحضور والغياب، ترويها بماء الدلالات الذي يرتفع كلما ارتفع زخم الأفكار والهواجس والمشاعر في هذه الأزمة. وهذا ما بدت عليه تجارب الرصد التي قدمتها مجموعة “Everyday Bahrain” (البحرين كل يوم). في هذه التجارب، تأخذنا العدسات إلى داخل بيوت الكادر الطبي، وحالات العزل الصحي، وفي أجواء السوق وتحولاته، والمجالس الدينية الفارغة والتي ذهبت لخيار البث المباشر والمنصات الافتراضية، وسواها من مظاهر استثنائية جلبتها الظروف الصحية التي تخيف على كل العالم؛ نصوص وصور كانت تراهن على هذا الارتباط بين الاثنين لرفع قيمة التجربة، وتوسيع هوامش الصورة وهي تدون وتوثق وتأخذ بيومياتنا إلى حدود الذاكرة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.