جواد الاسدي…. أفق جديد

ورشة فن - مسرح

0 903

كافي لازم – العراق

لا أحد يختلف على أن فترة ثلاثة عقود في التاريخ العراقي، الخمسينات والستينات والسبعينات هي فترة النضج السياسي وبلورة كثير من الأفكار التي كانت سائدة آنذاك وبالتوازي تصاعدت الحركة الفكرية والثقافية تزامنا مع ما يحدث في العالم بعد الحرب العالمية الثانية من حركة تحرر وطني اجتاحت الشعوب للتخلص من الاستعمار واذنابه. والعراق ليس بعيداً عن هذه الحال بل كان منغمسا في تفاعلاتها وتفاصيلها. وعند توفر هامش من الحرية دعى الى دخول الاصدارات الثقافية الجديدة من مصر وبيروت ودمشق التي اصبحت متنفساً كبيراً للشباب العراقي المتطلع الى الخلاص من الظلم والاستبداد. كما ان الحالة الاقتصادية المتردية لجميع العراقيين زاد من اصرار الشباب المثقف الى خوض غمار التحدي رغم الفاقة والعوز، عاش هذا الفتى اليافع (جواد الاسدي) مخاض الولادة من جديد في اجواء الصراعات التي سادت تلك الايام. ترك ساحات لعبة كرة القدم والجلوس في المقاهي واتجه الى المكتبة المتواضعة في مدينته وانكب على قراءة كل ما يقع بين يديه من اصدارات ثقافية الى أن تبلور لديه الفكر الثوري من خلال اختياراته لنوعية الكتاب، وجد هذا الشاب أن المسرح هو السبيل الأنجع لممارسة فعله الثقافي.

حزم الحقائب والأوراق واتجه صوب اكاديمية الفنون الجميلة رغم معارضة الاسرة الشديدة لهذا القرار حيث كان والده يحلم بأن يكون ولده البكر باختصاص آخر ليمسك وظيفة مثلى لكي يعيل عائلته الكبيرة بعد ان أدركه التعب وبلغ من العمر عتيا.

خضع جواد الاسدي الى لجنة القبول في اكاديمية الفنون الجميلة المتكونة من مؤسسي المسرح العراقي ونجح باقتدار عال، ووضع قدميه في هذه المؤسسة الراعية للفن وهو ثابت الخطى مسلحاً فكرياً وفنياً بالتميز عن اقرانه. ومع أن بناية الاكاديمية أصبحت غير قادرة على استقطاب الطلبة نتيجة قلة القاعات الخاصة بالمسرح مما اضطر جواد الاسدي ان يتدرب فوق أسطح البنايات. وقدم مسرحية (الليلة نلعب) لوليد اخلاصي والتي احدثت صدى واسعاً بين الاساتذة والطلبة وكتب عنها الكثير من النقاد، وأحب أن أذكر أن عروض الاكاديمية وجمهورها ليس حصراً على طلبة الكلية كذلك طلبة كلية الآداب والجامعة المستنصرية والادارة والاقتصاد، كان جمهوراً نوعياً يتحين الفرص لمشاهدة هكذا اعمال ولو كانت لدينا ما متوفر الان من اجهزة تصوير يدوية لوثقت اعمال كثيرة.

وكما مثل مع زميله الراحل اسماعيل خليل، كذلك اشترك في مسرحية (ڤيت روك) للمخرج الراحل جعفر علي. وانتمى الى فرقة المسرح الفني الحديث وهي تشكل نقطة مهمة في حياته الفنية لإغناء تجربته المعرفية والجمالية لذا اشترك في مسرحية (بغداد الازل) بدور (العيّار) وكان دورا رئيسيا ومسرحية (جيفارا عاد) تأليف جليل القيسي، وعمل في مسرحية (الجومة) تأليف يوسف العاني في دور مهم، لكن هذه المسرحية لم تر النور، فرغم الاستحضارات الكاملة للعرض، إلا أن السلطات منعت هذه المسرحية.

أخذ الأسدي فرصته المهمة ضمن خطة دعم الفرقة للشباب فأخرج مسرحية (العالم على راحة اليد) اعداد المخرج الراحل قاسم محمد، وأحدث هذا العمل اعلان ولادة مخرج سيكون له شأن كبير في الحركة المسرحية في العراق والوطن العربي كما سنأتي لاحقاً. وعند تخرجه من الاكاديمية قدم أوراقه للقبول في معهد التدريب الإذاعي والتلفزيوني وطموحه الكبير لاكتساب المعرفة الفنية والخبرة لخدمة بلده وشعبه وتم قبوله ابتداءً، وانغمس في العمل بكل جدية والتزام الا انه بعد أيام تم الغاء قبوله لأن عليه مؤشرات يسارية وغير منتمي لحزب السلطة. ورغم الخيبات المتلاحقة للحصول على وظيفة او أي مكان يليق بتحصيله المعرفي والأكاديمي ورغم الانسدادات المتراكمة كان القرار المهم وهو الرحيل عن الوطن وتحصيله على قبول لتكملة الدراسة في بلغاريا وبالتحديد في المعهد العالي (فيتس) في صوفيا العاصمة للحصول على شهادة الدكتوراه. انها فرصة كبيرة لا شك، وكان كل شيء جاهزاً الا المال… من أين؟ إلا ان عائلته تحاملت على نفسها رغم شح ما لديها من مال وبيع أثاث البيت لتوفير تذكرة السفر.

ابتدأ الدراسة هناك لكنه كان مهووسا بالمشاهد التجريبية وتجارب المسرحيين العالميين في أي مكان لاقتناص الفرص لرؤية هذا العالم الساحر (المسرح (. صديقه الأصيل الدكتور عقيل مهدي يوسف الذي زامله في نفس المعهد يقول (في كتابه شفرات المسرح المركبة): تجد دائما في مسرحيات الاسدي بعدا واضحا او مضمرا وبالأخص علاقة السلطة بالشعب وبالفرد المقموع ويمكن ان تظهر المشكلة الاجتماعية ببعد عالمي في نصوص جواد وعروضها التي استطالت الى عواصم عالمية (في السويد، فرنسا، اوكرانيا، اسبانيا وبولونيا) مثل عروض (الخادمات) ما بين بيروت، فرنسا والمغرب و(المجنزرة ماكبث) و(رأس المملوك جابر) و(نساء في الحرب) و(في الموت نصا) يبوح الاسدي عن البعد الايديولوجي حيث يدون في مقالته (حافة المسرح) في مقاربة لديوان شعر لا لزوم للنادل لان الحانة طلبت اللجوء الى بيت (جان دمو) لا لزوم للحرية لان السلطة تربعت على عرش الكلام ثم يختتم مقولته بجملة (لا لزوم للحياة بدون العراق).

مسرحية تقاسيم على الحياة
مسرحية تقاسيم على الحياة

واخيرا وليس آخرا حصل على شهادة الدكتوراه من بلغاريا صوفيا عام ١٩٨٣ عن اطروحته الموسومة (المسرح العراقي المعاصر واشكالية العرض المسرحي( لكنه ليس لديه القدرة للرجوع للوطن نتيجة موقفه السياسي من السلطة آنذاك مما اضطره أن يعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولا عن المسرح الفلسطيني، كما أنه عمل في المسرح السوري وأسس مسرح بابل في بيروت.

وعند الانتهاء من هذه المقالة تراودني بعض التساؤلات.. ألا يستحق هذا المخرج الكبير كل التكريم والتقدير من الحكومة العراقية؟ ثم ألا يستحق تعويضه عن حالات القهر والظلم وتحمل الصعاب في سبيل اعلاء شان وطنه وشعبه في الاوساط العربية والعالمية؟ ألا يمكن استثماره كخبير في وزارة الثقافة او أي مرفق يُعنى بالثقافة في الدولة العراقية للاستفادة من خبرته المتراكمة التي اكتسبها في معترك حياته الصعبة؟ هل يعقل أن هذا المخرج الكبير الذي عاد لوطنه بعد غربة طويلة لا يجد عملا في هذه الدولة الكبيرة وهو يعيش الآن بدون أي مورد مالي يخفف عن وطئة الحياة لا سيما هو الان ساكن في بيت للإيجار. على الحكومة استثناءً حصول هذا المخرج على استحقاقه الوطني المشروع؟؟

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.