شارلي شابلن يموت وحده

0 428

علي السباعي – العراق

أعمل مصلّحاً للأجهزة الكهربائية الدقيقة في مدينة أور. تعلمت من زوربا حب الحياة، وكنت كجيفارا متمرداً. كنت معوزاً للفرح، لابتسامات الناس، للربيع يلامس قلبي، للبياض، لرؤية الألوان الفاتنة تطرز حياة الناس، لأجواء السعادة تشرق على الناس مثلما أشرقت شمس تموز صباح اليوم الجمعة. أشرقت فوق هامات النخيل بلون أرجواني مخضر؛ لتشرق معها على وجهي الأسمر الجنوبي ابتسامة شارلي شابلن. ابتدئ صباحي بابتسامة لأنهي غروبي بابتسامة. أبدأ عملي بابتسامة لأحافظ على مزاجي رائقًا طوال النهار حتى الغروب؛ وكأنني أجامل الصباح والناس والغروب بابتسامة صادقة ترمم القلوب المخدوشة بالحزن. أفضل أن يراني الناس بوجه تشرق فيه ابتسامة دائمة. أمشي بينهم في الأسواق والأزقة بخطوات شارلي شابلن مرتديًا ألوان الفرح الفاتنة مرفوع الرأس؛ لأنني انفق وقتي كله منحني الرأس عاكفاً على تصليح أجهزة التلفزيون والستلايات. أخذت قول شارلي شابلن على محمل الجد: لن تجد قوس قزح ما دمت تنظر إلى الأسفل؛ آمنت برأيه: يوم من دون سخرية هو يوم ضائع. نهار يوم الجمعة مشرقٌ؛ كنت مثله مشرقاً بالمسرة. تذكرت أنه اليوم الذي صلب فيه المسيح “ع”، صرت أشيع أجواء الفرحة. أمازح الباعة المتجولين والكسبة وعمال المسطر والعتالين والصبية بائعي الماء البارد والمتسولين. أوصي نفسي بأن أكون هادئ البال منشرحًا. لم أعش حياتي متذمرًا ساخطًا. عشت بقلب أبيض راضيًا. عشتها هكذا حتى لا أصاب بالحزن. علقت على الحائط، بدل صورة السيد الرئيس، فوق رأسي حكمة قالها شارلي شابلن: لو كنت نبيًا لجعلت رسالتي السعادة لكل البشر، ووعدت أتباعي بالحرية، ومعجزتي أن أضع البسمة والضحكة فوق أفواه الصغار. ما كنت لأتوعد أحداً بنيران جهنم ولا أعد أحدًا بالجنة، كنت سأدعوهم فقط إلى أن يكونوا بشرًا وأن يفكروا، ليقرأها كل من يدخل ورشتي. ينعتني أبناء مدينتي بشارلي شابلن لأنني أمشي مثل مشيته، أبتسم ابتسامته، أدمنت مشاهدة أفلامه إلا أنني أختلف عنه في حبي للإليكترونيات. أعيش وحيداً؛ ينطبق على قول رافائيل ألبرتي: أنت في وحدتك بلد مزدحم.

بلغت درجة الحرارة 54 مئوية، بمجرد خروجك إلى الشارع تتلظى، أشاهد غيومًا سودًا تجمعت وسط الحر القائظ في هذا الصيف المر، وما صنعته هذه الغيوم من فيء بارد. أعلم أنها أجواء الشؤم التي تُذهِب البسمة؛ أجواء تقبض القلب؛ والمتبضعون يسيرون غير مبالين بالحر لأنهم اعتادوه. حرارة أنفاس الناس تتشظى حارة هائجة تصل حد القسوة المنفرة، وشمس الضحى القاسية التي تستمد لونها من لون العسل؛ ابتسمت للشمس العسلية. تمنيت نزول المطر، مطر مدرار، بأصوات رنانة تملؤني بهجة لألوان أكثر ابتسامًا. يمر أمام ورشتي الصغيرة، وعلى الرصيف المقابل لورشتي، رجال وأولاد صغار ونسوة يتسوقن؛ أسمع أصوات الحياة الصاخبة؛ أضحك بفرح طفولي. يحتسي رواد المقهى أمامي الشاي رغم ارتفاع درجات الحرارة في هجير أكثر أيام الصيف قيظاً.

دخل شخص عليّ؛ لم أرفع رأسي لأراه. أحسست بدخوله. كنت منهمكاً في عملي، رنوت إليه: جارنا يحيى المنغولي. كان يحيى نقيًا ودودًا بريئًا عذبًا بلا حدود ينجذب الناس إليه كالفراشات. يرنو لي، يمسك بيده ستلايت قديمًا جدًا مع جهاز التحكم عن بعد. يتلفت ويبتسم؛ يبتسم ويتلفت. تلفت إليه وابتسمت. ينظر إلي وانظر إليه. كان يراوح بقدميه، وهو واقف وكأنه في كردوس عسكري أمر بمحلك قف، مكانك قف. وبشفتين يابستين، أخبرني بصوت فيه أشراقة رجاء ممزوجة بخجل، مرت بقلبي ونشرت المسرة: إنه عاطل، وعليّ إصلاحه، شعر قلبي بالسعادة. راح قلبي يضرب بسعادة أضلاع قفصي الصدري، ابتسمت، ابتسم، ضحكت ملء روحي، ضحك ملء روحه، وما زحته: أنت عاطل عن العمل أم الجهاز؟ ضحك. سافرت مع ضحكته بمزاج جديد داخل نفسي. ضحك ملأ روحه الطاهرة، كنت أنظر طوال حديثنا في عينيه المنغوليتين. أخبرته بعد أن فحصت الستلايت أن الجهاز صالح للعمل وبحالة جيدة، وجهاز التحكم عن بعد كان عاطلاً. طلبت منه شراء واحد آخر من المحل المقابل لمحلي. قال: ما عندي فلوس. ضحكت بشدة، وأعطيته ثمن جهاز التحكم عن بعد. خرج فرحاً مطمئناً مبتسماً، بيمناه جهاز التحكم عن بعد. بعد خروجه بلحظات، رجّ المكان انفجار عنيف، سبقه سطوع ضوء لهب أزرق مبهر، غليان أحمر، موجة رعب، صراخ، وعويل. خرجت من ورشتي بعد انتهاء الانفجار، أركض مثل شارلي شابلن لكن دونما عصا، في جو ملؤه الفوضى والصراخ والدم والقتلى والجرحى والأشلاء تملأ السوق. صار المكان بشعًا. ريح حمراء عصفت بالسوق والناس وكل شيء؛ جعلت أرض أور أرض دم؛ أرى الدمار طال كل شيء، هشّم موجودات السوق وجعل الناس أشلاء، وكل شيء منقلب رأسًا على عقب: بقع الدم تملأ أسفلت الشارع والجدران، وهامات النخيل اكتوت بدماء القتلى والجرحى، حفرة كبيرة ملئت بجثثهم ودمائهم وبضاعتهم وبضاعة المحال التجارية وزجاج واجهات المحلات محطم، البضائع اختلطت بدماء الأبرياء. صار شائعًا رؤية الأجساد الممزقة بعد كل انفجار، خرجت وسط الدمار مرعوباً منهك القوى والروح، هرعت من محلي هلعًا خائفًا. هنالك حشد من الناجين ملطخ بالدم والوحل يحتشدون فوق شيء ما، يضربونه بشده. ظننته لأول وهلة إرهابيًا ثانيًا يحاول تفجير نفسه؛ فعادة ما يعمد الإرهابيون إلى تفجير مزدوج. بعد إن ينتهي التفجير الأول، يتجمع الناس لإنقاذ الجرحى يفجر إرهابي ثان نفسه، كل من في السوق يضرب شخصاً ما، يصرخون أمسكنا الإرهابي الذي فجر العبوة الناسفة، صدق حدسي، تدافعت بين المحتشدين شاقًا لنفسي طريقًا وسطهم. بصعوبة بالغة، أبعدتهم، أزحتهم، تدافعت معهم حتى وصلت إلى الإرهابي، رأيته، إنه: يحيى المنغولي! قد فارق الحياة لكثرة ما تلقى من ضربات مميتة، جسده مدمى، يمسك بيده اليمنى جهاز التحكم عن بعد خاصته، مات هادئ البال مطمئنًا. تلقى موته ببسالة ورباطة جأش، مبتسمًا رغم أنف الموت، وقد ارتسمت ابتسامة عذبة فوق شفتيه الشبيهتين بفم السمكة. عيناه المنغوليتان تطالعاني بحسرة فيهما لوعة، فيهما تعبير طفل مرعوب عوقب عقابًا قاسيًا. جثوت عليه غير مصدق، راحت دموعي تتساقط عليه، تمطره. إذ أن الناجين اعتقدوا أنه من فجر العبوة الناسفة وسط السوق. رحت أصرخ في وجوههم المرعوبة مزيلًا اللبس الحاصل. أخبرتهم الحقيقة، مقتله أشعل قلبي بالحزن، شعرت بنفسي وحيدًا واحتضنته، شعرت بقلبي حزينًا على مقتله. في تلك اللحظات، غربت شمسه، ألقت غبارها على قلبي، انطفأت شمسه، سرقت منه حياته، سرقوها. رحت أبكي بحرقة عليه، حلمه إصلاح جهاز التحكم والستلايت ليرى العالم. كان طائرًا مكسور الجناح؛ كيف يستطيع الخروج من أور. مر موته صاخباً وبألم كبير، مرقت فوقنا سحابة بيضاء قريبة غطت عالمنا القاسي، نظرت صوبها وهي تحجب الشمس الحمراء المتوهجة المستديرة العمودية وسط سماء رصاصية داكنة، دوى صوت انفجار ثانٍ.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.