ترجمة مختارة من كتاب «شبح صورة» (Ghost Image)

 للكاتب الفرنسي هيرفى غيبير (Hervé Guibert)

0 818

 

الترجمة العربية لإيمان أسعد* عن الترجمة الإنجليزية للنص الفرنسي لروبرت بنونو** (Robert Bononno)

 

اعتدتُ أن أحلم

في طفولتي، اعتدت أن أحلم باختراعٍ مذهل رأيته في كوميكس “بيبي فريكوتان” (Bibi Fricotin): نظارةٌ تقرأ أفكارنا. لكن مع الأيام بدأت أُذعَر منها، حين أدركت أنَّ لأيّ أحدٍ أن يستخدمها ضدي. لاحقًا، في سلسلة من الإعلانات الشنيعة، اكتشفتُ وجود نظارةٍ تخترق ملابسنا، تكشف أجسادنا، وتخيّلتُ التصوير الفوتوغرافي قادرًا على جمع تلك القوّتين.

من هنا بدأت الغواية إلى التقاط صور البورتريه …

غرفة الفندق 

غرفة الفندق غير القابلة للتصوير (أي التي لا رغبة لديك بتصويرها) غرفةٌ من الأساس سيئة. لدى وصولك إلى مدينة، أولًا وقبل كل شيء، صوِّر الغرفة كأنّما تعلّم ملكيتك عليها. وصوّر انعكاسك على المرآة كأنما تعلّم انتماءك المؤقت إليها، كأنّما تخفف من خسارتك، شهادةٌ على حضورك.

أو لك أن تحتلَّ الغرفة فورًا بممارستك الحبَّ فيها.

صورة الأشعة

قبل عدة أعوام، في حاشية حقيبة مستندات، وقعتُ على صورة أشعة للجانب الأيسر من جذعي، أُخذَت في العشرين من أبريل 1972، حين كنت في السابعة عشر من عمري. لصقتها على زجاج النافذة الفرنسية المقابلة لطاولة مكتبي. الضوءُ ينسلُّ عبر شبكة الخطوط العظميّة المزرقَّة والأعضاء المغبَّشة كأنما ينسلُّ عبر زجاجٍ معشَّق.

لكني، وبوضعي صورة الأشعة هذه حيث يتسنى للجميع رؤيتها (الجيران والزوّار على حدٍّ سواء)، كنت أستعرض أكثر الصور حميمية عن نفسي، أكثر حميميَّةً بكثير من صوري عريّي، صورة يكمن فيها لغزٌ يمكن لأي طالب طبٍّ أن يفكّ شفرته بسهولة.

ما عدتُ أحتفظ بأي صورة لي في البيت -ويقشعرُّ بدني حين يعلّق الآخرون صورهم في بيوتهم- لكن هناك، على نافذتي، أستعرض ببهجة الفضائحيّ صورةً مختلفة جوهريًّا عن كل صوري.

مثالٌ على صورة سياحية

لدى وصولنا مدينةً غريبة، يرافقنا اندفاعٌ نحو الحركة، شهيةٌ بصريّة متحمسة – بهجة “النظرة” غير المألوفة (أضف إليها الضوء والوجوه والعمران والكتابة على واجهات المحلات والإعلانات). في اليوم الذي تلا وصولي، استهلكت ثلاثة أفلام في كاميرتي، لكن تطلّب استهلاك الفلم الرابع ثلاثة أيّام. فالتصوير السياحي اندفاعٌ حماسيّ، هستيريا سرعان ما تخبو.

عند محطة الباص في كراكو، توقفتُ حتى ألتقط صورة رجلٍ وامرأة مسنّيْن متدثريْن بأسمال شبه سوداء، النومُ غالبٌ على وجهيهما. جسداهما المتراخييْن، الجامديْن خلف العمود الحديدي، متكئان على درابزين السلم، في المسافة الضيقة الفاصلة بينه وبين خريطة الطريق. وها هما، محدودبيْ الظهر، مرهقين، مسنودين على العمود الحديدي مثل دميتين هجرهما محرك الدمى في حجيرة.

وبّخني تي. لالتقاطي الصورة، وأثارت مقاومته اهتمامي. كان لي أن ألتقط الصورة دون أن أضطرَّ لمواجهة نظرة الرجل والمرأة. كانا نائمين، وبذلك لن يكون للصورة أي تأثيرٍ عليهما، فقط على من حولهما، على رفاقهما من مواطني البلد.

سألني تي. لماذا أريد التقاط الصورة، وجادلته، بحجةٍ خاطئة، أنَّ المشهد أزعجني، وليس بسبب مضامينها الاجتماعيّة. قال لي، “تلك الصورة اُلتقطت مئة مرة، وهي تثير اهتمامك فقط لأنها مختلفة عن عالمك الذي تعيش به،” وحجته هذه بدت لي منطقية وغير منطقية في الآن نفسه. منطقية لأنَّ معه حق، الصورة تكتسب قيمتها فقط عبر عرضها في زمنٍ ومكانٍ مختلفين عن موقع التقاطها. وغير منطقيّة لأنَّ توبيخه الساخر حول رغبتي الفوريّة بالتقاط الصورة أجبرني على التفكير: وإن فكّرتُ قبل التقاط أي صورة، لن ألتقطها.

في مطعم، انزعج تي. مرة أخرى لالتقاطي صورة نادليْن يتسلّقان الكراسي لتثبيت لوحة بالمسامير، وقلت له، “ألا تفهم أنّي حتى أكتب هذا النص عن التصوير الفوتوغرافيّ، عليّ أن أكون مصوّرًا؟”

فقال، “لكنك لا تعرف حتى ما المكتوب على اللوحة.»

العودة إلى صورة المحبوب

“لماذا تُفرِط في تصويري إلى هذا الحد؟”

“لا أراني أفرط في تصويرك. بل أنا موقنٌ أنّي لا أصوّرك بقدر ما أرغب، حتى أنّي لا أعرف لماذا أصوّرك…ربما لأني عاجزٌ عن عناقك، وما كنتُ أبدًا لأطلب منك أن تسمح لي بعناقك.”

“يقشعرُّ بدني لمجرد فكرة عناقك.”

“لهذا أسهلُ عليّ أن أطلب منك التقاط صورتك على أن أطلب عناقك…أنا أصوّرك وكأنني أخزّن مؤنةً منك تحسبًّا لغيابك. تلك الصور ضمان، رهنيّة، مقابل رغبتي بك: حتى أنَّ لا حاجة بي لتحميضها. لكن إن حدث يومًا ما، ولأني واقعٌ في هواك، بات غيابك عني لا يُطاق، سأعرف أنَّ لي أن أعود إلى الفلم وأحمّض صورك، وأعانقك، لكن دون أن أجعل جسدك يقشعرّ مني، ودونما تعويذةٍ ألقيها عليك. يقولون إنك إن أردت لمحبوبٍ عنيد أن يقع في هواك، كل ما عليك فعله أن تختلس إلى غرفة نومه وتدسّ تفاحة أسفل فراشه، مع كبشة قرنفل، وتتركها تتعفن هناك. والصورة لها التأثير ذاته، تعويذةٌ ألقيها عليك. وبالتقاطي صورتك أصِلُ نفسي بك، أمتصّك، أجعلك جزءًا من حياتي. ولا شيء بيدك فعله إزاء هذا.”

** روائية ومترجمة أردنية مقيمة في الكويت. حاصلة على شهادة الماجستير في الدراسات الأميركية من الجامعة الأردنية (٢٠٠٥)، وعلى شهادة البكالوريوس في تخصصيّ علم الحاسب الآلي والأدب الانجليزي من جامعة الكويت (٢٠٠٣). صدر لي رواية” زينب والخيط الذهبي“ عام ٢٠١٥. الترجمات الأدبية الصادرة لي تتضمن: رواية” الطلب الأخير“ للروائي غراهام سويفت (٢٠١٨) ”السفاح الأعمى“ للروائية مارغريت آتوود (٢٠١٩)، ”المرأة في الطابق العلوي“ للروائية كلير مسعود ”قشرة الجوزة“ للروائي إيان مكّيوان (٢٠٢٠)، و”إلى المنارة“ للروائية فرجينيا وولف (٢٠٢٠).

 

** يعمل روبرت بونونو كمترجم فرنسي مستقل منذ أكثر من 20 عامًا. كان أستاذًا مساعدًا في برنامج دراسات الترجمة بجامعة نيويورك، حيث مارس تدريس الترجمة التقنية وتكنولوجيا الكمبيوتر للمترجمين، وفي كلية الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك أعطى خلالها دورات في المصطلحات والترجمة.

 

هيرفى غيبير

وُلد هيرفى غيبير في باريس عام 1955، وبدأ مساره في الكتابة عام 1972 من خلال مقالاته الثقافية في الصحيفة الفرنسية «لو موند». غيبير مصوّرٌ فوتوغرافيّ بارز، وكتب نصوصًا حول التصوير الفوتوغرافيّ، كما ألّف أعمالًا أدبية، من أهمها الرواية السيريّة المتخيّلة «إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي» (To the Friend Who Did Not Save My Life)؛ روايةٌ مؤثرة حول الأيام الأخيرة في حياة صديقه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والذي مات بالإيدز عام 1984. هيرفى غيبير مات بالإيدز أيضًا عام 1991. 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.