ميلان كونديرا، حياة وكاتب

0 441

ماجدلينا هروزينكوفا.

ترجمة: محمد فتيلينه

  (ميلان كونديرا، حياة وكاتب[1]) للناقد الفني والأدبي “جون دومينيك بريار” هو سيرة ذاتية تُسلط الضوء على مسيرة الروائي التشيكي الأدبية والفكرية والسياسية. وتُصور تناقضات هذه الشخصية، التي نادرا ما تظهر في وسائل الاعلام. يستحضر فيها المؤلف السياق التاريخي لطفولته وشبابه في تشيكوسلوفاكيا قبل نفيه إلى فرنسا عام 1975 ويبرز تأثير ماضيه على عمله الأبي. مع جمعه للعديد من الشهادات التي حصل عليها من أصدقاء الروائي ومُقرّبيه ومترجميه.

وفيما يلي حوار أجري مع مؤلف سيرة كونديرا، وبثّ باللغة الفرنسية على أمواج إذاعة براغ الدولية، وتمّت ترجمته الآن إلى اللغة العربية للمرة الأولى.

***

     -كتبتُ سيرةً ذاتيةً لميلان كونديرا، لم يسبقني إليها أحد -هكذا قال جون دومينيك بريار، الذي ألف الكتاب المثير (ميلان كونديرا، حياة كاتب)، صدر الكتاب سنة 2019 عن دار أرشيبال للنشر، وهو سيرة آسرة لم يُكتب مثلها في جمهورية التشيك، رحلة تسمح باكتشاف المسار الحافل لأحد أشهر كتاب نصف القرن العشرين الأخير.

     عبر ميكروفون إذاعة براغ، سرد جون دومينيك بريار ما واجهه من تحديات كبيرة، لإنجاز سيرة بهذا الشكل وما تمثله له كتابة هذه السيرة الأدبية، المُخصصة لميلان كونديرا، المعروف بشخصيته الكتومة المثيرة والبعيدة بشكل كلي عن عيون الصحافة.

جون دومينيك بريار، اسمح لي مع بداية حواري أن اعطيك صبغة خاصة بعض الشيء، يعتبر كتابك (ميلان كونديرا، حياة كاتب) اكتشافا حقيقية بالنسبة للقراء التشيكيين، فهو ينقل الكثير من الشهادات واللقاءات غير المنشورة سابقا في جمهورية التشيك، مُرتبطة بحياة الكاتب وأثره الأدبي. أعلم أنك كتبت العديد من السير الذاتية لموسيقيين من أمثال “ليونار كوهين” وحبوب ديلن”، كما يعرف جمهور القرّاء التشيكيين كتابك، الذي خصّصته لـ “إيديث بياف”. بعد هذه المؤلفات لماذا خصّصت كتابا لسيرة ميلان كونديرا، هل هي رغبتك أنت؟

كانت لدي رغبة قديمة في الكتابة عن الأدب، وما زالت الفكرة تُراوح مكانها حتى الآن. كتبتُ عن ليونار كوهين وبوب ديلن، وهما مغنيان لكنهما في الآن نفسه شاعران. هذه المرة لدي رغبة في كتابة شيء عن الأدب وبما أن كونديرا يمثل أحد الكتّاب الذين أُفضّلهم، اخترته كي يكون هو صاحب السيرة الذاتية، خصوصا بالنسبة للجمهور الفرنسي، الذي لا يعرف الكثير عن تاريخ أوروبا الوسطى “السيرة التي أصفها بالأدبية هي سيرةٌ لأثرٍ صنعه رجل أدب، وهذا يعني أنني أنطلق من الكتاب للوصول لمن ألفه وليس العكس، ليس هناك أشياء شخصية أو علاقات غرامية. رغم ذلك أنا متوجس نوعا ما من ردة فعل ميلان كونديرا، قبل أن أشرع في الكتابة راسلته لأُعلمه بذلك وأبديت له رغبتي في لقائه، رغم ادراكي أن ذلك أشبه بالمستحيل لكنه لم يرد علي. وبعد أن نشرت الكتاب أرسلت له نسخة منه، وكم كانت مفاجأتي كبيرة حينما تلقيت منه رسالة شكرٍ ودودة. عرفت أنه أُعجبَ بما كتبت وأحبّ كثيرا ما جاء في الكتاب، وبالرغم من مشاكله الصحية في تلك الفترة، أمكنني جدولة جلسة غداء معه.

لإعادة ترتيب مسيرة كونديرا ووضعها في الإطار التاريخي، اعتمدتَ على شهادات كثيرة من أصدقائه وزملائه، خصوصا شهادة الفيلسوف “آلان فيلكنكروت” والناقد الصحفي التشيكي “أنطون ج. ليهام”، الذي عاش هو الآخر في فرنسا، كما استعنت بشهادة مترجم روايات كونديرا (إلى الفرنسية) “فرونسوا كيرال”. كيف تم التنسيق مع كل هؤلاء؟ وهل كان يسيرا عليهم الحديث عن كونديرا؟

كان سهلا على “آلان فيلكنكروت” مثلا التحدث عن كونديرا. أما بالنسبة ل انتونان ج. ليهام لم ألتق به في براغ، إلا أننا تبادلنا المكالمات الهاتفية، وكل هذا لم يُشكل أي مشكلة بل كان من الأهمية بمكان، فبالرغم من عمره المتقدم, كان سرده للذكريات دقيقا جدا. أما بخصوص المترجم فرونسوا كيرال، رغم أنه فرنسي إلا أنه يعيش في جنيف (سويسرا) وكان التواصل معه صعبا بعض الشيء، إذ لم يرغب في البداية بالمشاركة معي مُعتقدا أن كونديرا قد يتذمر من الأمر. قال لي: (كونديرا شخص حساس جدا، لذا لا أحبّذ أن تكتب شيئا عنه)، لكنه قبلَ الحديث عن كونديرا في نهاية المطاف، ودام تواصلنا عدة أشهر، انصب جلّ حديثنا عن دوره بصفته مترجم، وأنت تدرك أهمية الترجمة بالنسبة لأعمال كونديرا طوال عشرات السنين، بالرغم من أن كونديرا كتب بالتشيكية إلا أن جمهوره التشيكي لم يقرأ له. الفرنسيون هم أوائل قرائه. كان بحوزة المترجم فرونسوا كيرال العديد من المعلومات عن طريقة عمل الرجلان، وهو الذي ترجم أكثر من 90% من كتب ميلان كونديرا.

يحكي فرونسوا كيرال، على سبيل المثال، أن كونديرا عندما يكون غير راضٍ عن شيء ما فإنه يكاتبه باللغة التشيكية [رغم اتقانه للغة الفرنسية] …

(عندما كنت أستشيره بأي لغة نتحدّث أثناء ترجمة أعماله يُجيبني: باللغتين معا. ولكنه عندما لا يكون راضيا عن شيء ما فإنه يتحدث معي بالتشيكية). عن هذا الموضوع لا بد من توضيح شيء ما وهو أنني لا أتحدث التشيكية ولا أكتبها، ولكن رسالة شكر كونديرا التي كتبها لي، كتبها باللغة التشيكية، وقد ساعدني على قراءتها المُترجم فرونسوا كيرال، الذي قال لي: (حوى كتابك العديد من المصادر باللغة التشيكية، مما جعل كونديرا يَجزم بأنك تتقن التشيكية).

كان على القارئ التشيكي أن يُبدي ردّ فعل مشابه لكونديرا نحوك، لأنه يبدو له وبصورة طبيعية-أنك تتقن التشيكية.

وظّفتُ الكثير من الوثائق التشيكية في كتابي، بعدما حصلت عليها من الكتب ومواقع الشبكة العنكبوتية، لكنني كنت مجبرا على ترجمتها إما للفرنسية أو الإنجليزية، لأنه تعذّر علي فهمها بشكل مباشر من اللغة الأصلية. فكّرت على سبيل المثال في مقالات كتبها كونديرا أو “فاكلاف هافل” وترجمتها كي أدرجها في الكتاب.

أنت لم تسافر إلى جمهورية التشيك لتقف عن قرب على أثر كونديرا، أليس كذلك؟

تردّدتُ في الذهاب إلى جمهورية التشيك، والمشكلة أن كونديرا كان قد تقدّم كثيرا في السن (فهو قد تجاوز التسعين)، لذا تساءلت مع نفسي إن كان سفري مُجديا خصوصا أن أغلبية من شهدوا تلك الحقبة من بدايات كونديرا قد فارقوا الحياة، ثم انصب جُل اهتمامي على شهادات أشخاص مثل “أنطون ج. ليهام”، وهو واحد من القلائل الذين كانوا شهودا على مسيرة كونديرا. كما كانت لدي رغبة حقيقية في زيارة مدينة (برنو) مسقط رأس كونديرا، لكن الوقت لم يسعفني كي أرى عن قرب أجواء المدينة. ورغم ذلك حصلت على شهادات مهمة من قبل العديد ممن سكن “مورافيا” المقاطعة التي جاء منها كونديرا، جعلتني أستشعر المكان عبرها.

في كتابك السيري، تجنّبت الحديث عن حياة كونديرا الخاصة، باستثناء حديثك عن الشخصية التي تركت بصمة كبيرة في حياته، ألا وهي شخصية والده (لودفيك كونديرا)، عازف البيانو العالمي وأستاذ الموسيقى الكبير. في بداية الكتاب تشير إلى أن الوالد سهر على تربية ميلان تربية موسيقية، وكان يرغب في توجيهه لاحتراف الموسيقي حتى سن الـ 25. ماذا يمثل بالنسبة إليك (موسيقيا هذه المرة) التأثير الذي تركته الموسيقى في أعمال كونديرا الروائية؟

تُمثّل حالة كونديرا استثناءً في عالم الأدب، فأنا لم أعرف روائيا معاصرا تأثر بالموسيقى في عمله كما هو الشأن مع كونديرا. كما أن كونديرا نفسه يتحدث كثيرا عن تأثير الموسيقى والموسيقيين خصوصا بيتهوفن وياناييك وستافينسكي على طريقة كتابته وشكلها، بمعنى أنه شيّد عمله الروائي في الكتابة بشكل موسيقي من خلال النسق الموسيقي والمقطوعات الهادئة والسريعة…إنها ظاهرة فريدة. هناك كتّاب أثرت الموسيقى في أعمالهم مثل لورانس دوران ولكن ليس بمثل كونديرا. وقد كتب ذات مرة أن العديد من الروائيين حينما يبدؤون رواياتهم يجهلون نهاياتها، بينما هو يعرف بدايات عمله وشكل نهاياته وهذا أشبه بعمل الموسيقيين، الذين يشكلون مقطوعاتهم وهم على دراية بخاتمتها (نجد وجهة النظر هذه في حوار أجراه معه الناقد الكندي الفرنكفوني نورمان بيرون سنة 1979، في مجلة ليبارتي، العدد 21).

كونديرا ليس بطلا قوميا:

خصصتَ أحد الفصول الأخيرة في كتابك لـ”قضية كونديرا”، التي أثارتها جريدة “ريسباكت” التشيكية سنة 2008 ومفاد الخبر أن كونديرا كان قد بلّغ في سني شبابه عن أحد الطلبة للشرطة الشيوعية. وفي حوار أذاعه مؤخرا راديو براغ؟ أشار فرونسوا ريكار وهو أحد مقربي كونديرا بأنه ( لم يستوعب بعد) سوء الفهم بل ( الغل ) الذي ما زال يضمره بعض التشيكيين لكونديرا. ألديك الصعوبات نفسها التي تصاحب هذه النظرة المعقدة؟  لم بدا لك الأمر مهما كي تنقله للقارئ الفرنسي؟

“لأن القارئ الفرنسي، وأُكرر أنَّه لا يعرف الخصوصية  التشيكية جيدا، قد يتشكل لديه انطباع بأن كونديرا بطل قومي. ورغبتي كانت وضع الأمور في نصابها. فبحسب الشهادات التي جمعتها سواء بالقراءة أو بسؤال بعض التشيكيين وجدت مواقفهم مختلطة بين من يعتبر كونديرا أحد أكبر الكتّاب التشيكيين الأحياء، وبين من يرى فيه (خصوصا من النخبويين) جزءا من الحقبة الشيوعية القاسية من جهة، ويعتبرونه مغاليا في مسألة ابتعاده عن الجمهور من جهة أخرى ، خصوصا بعد الثورة المخملية إذ لم يشارك (وفقهم) في أي شيء ولا حتى في ندوة أو لقاء أو مؤتمر. وكأنه اختار الغياب المطلق. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن غيابه هذا لم يكن عن جمهورية التشيك وحدها بل عن العالم بأسره”. “وأعتقد أنه بالنسبة للتشيكيين كلا النظرتين لا تسيران بشكل سليم أي ماضيه الشيوعي وجنوحه إلى ترك المسافات بينه وبين الناس، كان عليه أن يكون عظيما في بلده. أعتقد أن كونديرا اختار في الوقت الراهن فرنسا وطنا له وسكنا على الرغم من حضور ماضيه التشيكي في أعماقه. هنا استحضر طُرفة وهي أن خلفية البطاقة البريدية التي كتبها لي كونديرا كرامة وشكرا، كانت تبرز صورة لفتاة صغيرة تحمل دلو ماء على طول السكة الحديد وقد كتبت في طرفها أغنية مورافية للأطفال من بدايات القرن العشرين. رغم أن كونديرا يعيش في باريس منذ أربعين عاما إلا أن ماضيه المورافي ما زال عالقا في ذهنه.

ما الذي عرفته عن كونديرا وأنت تكتب سيرته في كتاب؟

لا يساورني الشك في أنه لعب دورا هاما كمثقف شيوعي في سنوات الستينيات،إن كونديرا قليل الخوض في ماضيه، أنه لا ينفي ذلك ولكنه يجنح إلى التقليل من أهميته. في أثناء بحثي في الوثائق أدركت سريعا أنه كان في البداية مثقفا داخل المجتمع الشيوعي التشيكوسلوفاكي في تلك الحقبة، ونحن في فرنسا نجهل هذا الأمر تماما.

هل واجهتك صعوبات بعينها أثناء نشرك للكتاب، بعيدا عن الأسرار التي اكتنفت حياة كونديرا؟

الصعوبة الرئيسية الحقة كانت مرتبطة برغبة كونديرا بالبقاء في الظل بعيدا عن الأضواء. فعلى سبيل المثال رغبتُ في التحدث مع ناشره وصديقه أنطوان غاليمار عبر الهاتف، فلم أكن أتلقى – بصوت مساعدته -إلا الجواب التالي: “ليس بالإمكان تنظيم لقاء مع أنطوان غاليمار للحديث عن آل كونديرا (أي ميلان وزوجته)، لأنهما لا يرغبان أن يتحدث عنهما أحد”. وطالما رغبتُ في الحديث مع أكثر من شاهد يعرفه في فرنسا، لكن المؤسف أن بعضهم لم يرغب حتى في الرد علي ّ مثل الكاتب بينوا دوتارتر، الذي يعتبر صديقا مقربة جدا من كونديرا، والذي كان سيعينني كثيرا لو سمح لي بالسؤال عن صديقه. المقربون من كونديرا يدركون أنه كتوم، لم تتح لي كل الشهادات التي رغبت في سماعها أو قراءتها عنه.

[1] https://francais.radio.cz/une-biographie-francaise-de-milan-kundera-entremele-sa-vie-et-son-oeuvre-8131045

<strong>جون دومينيك بريار</strong>

صحفي مهتم بالكتابة عن  “الكتابة والموسيقى” منذ عام 1983. وهو مترجم أيضا. ألف أكثر من  خمسة عشر كتابًا ، معظمها عن الأغاني والجاز إلى أنها كتب السيرة الذاتية لميلان كونديرا أيضا دون أ، يلتقيه معتمدا على شهادات صحبه ومجايليه

<strong>ميلان كونديرا</strong>

كاتب فرنسي ولد في التشيك اشتهر بكتاباته الساخرة والسياسية ذات الأبعاد الفلسفية، ومن أشهر أعماله كتاب كائن لا تحتمل خفته. وهو أحد أشهر الروائيين اليساريين، حصل على جائزة الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي في العام 1991.

<strong> محمد فتيلينه</strong>

روائي ومترجم من الجزائر. كتابته العربية والفرنسية مقدرة حصد عدة جوائز أدبية منها جائزة دار أطلس والجائزة الفرنكفونية لأحسن القصص لدار المخطوط الفرنسية برعاية اليونيسكو. وكذلك جائزة “الطاهر وطار” للرواية عن روايته “ترائب، رحلة التيه والحب”.عام 2019

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.