البحث عن المعنى المفقود

0 235

 

زكي الصدير – السعودية

دعونا نتفق على شيء أساسي، وهو أن الصحفي الحقيقي بالضرورة يجب أن يكون مشتغلاً على اللغة، ولديه حساسية مفرطة تجاهها، فهو في الأساس إما شاعر أو قاص أو روائي أو مسرحي، أو على أقل تقدير صانع محتوى لغوي، لذا فلا يمكن في حال من الأحوال أن يتناسى الصحفي ذلك الجزء الإبداعي منه.

ما هو قائم اليوم في معظمه (وليس كله) مجرد مواهب كتابية فاشلة تشتغل في حقل الصحافة الثقافية، وهذا يعود لعدة عوامل، أبرزها عدم تحول الصحافة لمهنة احترافية ذات جدوى مادية كما كانت عليه قبل عشر سنوات في أضيق تصور زمني لسقوط قلعتها المادية، حيث كان يتقاضى الصحفيون جزءاً يسيراً من الكعكة عبر رواتب مقطوعة أو مكافآت متذبذبة على حسب المادة المنشورة ومساحتها.

قبل أكثر من عقد، وعلى طريقة الهاشتاق عنونت المجلة العالمية الشهيرة “نيوزويك” الأمريكية نفسها قائلة “#LASTPRINTISSUS”. لا شيء سوى “آخر عدد مطبوع” لتودّع بذلك العالم الورقي متجهةً بكل ثقلها التاريخي الثمانيني للإصدار الإلكتروني الذي لا يقل تحدّياً عن سواه وسط (هوامير) الإعلام العالمي الذين يعرفون جيداً قواعد اللّعبة التسويقية الضامنة لبقائها.

والغريب أنه ومع وجود العديد من الدراسات التي تؤكد على أفول الإعلام الورقي (لعلّ من أهمها الدراسة التي قامت بها مايكروسوفت) إلا أنّ هذا الانتقال في مجلة نيوزويك صُنّف من قبل المالكين أنفسهم على أنه فشل ذريع خصوصاً بعد المحاولات الكثيرة لإنعاشها الورقي والتي باءت جميعها بالفشل منذ 2010.

عربياً، وبشكل بطيء نسبياً، وصلنا إلى ما وصل إليه العالم كله، فلم نعد نستمتع برائحة الورق بأنوفنا، ولا بتكسّره بين أصابعنا. وحتى الدراسات التي لم تكن لتجري علينا أصبحت الآن جزءاً لا ينفك من كروموسوماتنا الثقافية. الأمر الذي يؤكده أيضاً قرار المالكين في “نيوزويك”، حيث أكدّوا أن الطبعة الورقية العربية التي كانت تصدرها دار الوطن الكويتية -آنذاك- ستستمر حسب ظرورف كل طبعة.

وفق قناعاتنا بهذه المقدمة أصبح الشاعر الصحفي أو الصحفي الشاعر مجرد شرطي حراسة يقف حامياً أمام قلعة اللغة العالية والتاريخ المجيد الذي كانت اللغة فيه ذات قيمة في صناعة المحتوى الإعلامي. لكن هذا الحامي ليس سوى صورة فلكلورية في برواز (أنتيكة) معلّق على مكتب رؤساء التحرير.

على كل حال، وبعيداً عن التقييم الثقافي، فإن الشاعر بداخل الصحفي سيجعله باحثاً عن المعنى المفقود في خارطة الثقافة من أجل رصدها وتوثيقها بصورة مختلفة، ومن زوايا ربما لا يلتفت لها أحد سواه، فهو وحده من سيقدّر العمل الحقيقي، وسيفرق بين الغث والسمين. وعلى المستوى الشخصي لم أفصل في يوم من الأيام بين الشاعر والصحفي، فعليهما أن يخدما بعضهما البعض، وأن يذوبا في هيكل ثقافي واحد. ولهذا، فلا وجود للمجاملات الثقافية، حيث سيوقعك شاعرك في مواجهات مباشرة مع القوالب الثقافية المزيّفة والجاهزة والمنجزة في المشهد، أو التي توّهمت أنها ذات شأن بسبب التطبيل الثقافي من الجوقة النقدية والإعلامية المرافقة لشبكة العلاقات العامة. فالعلاقات -مع الأسف- هي وحدها من تتكفّل لدفع التافه إلى الواجهة والبروز الإعلامي، وإلا فأنا أعرف شعراء مهمين جداً على مستوى التجربة، لا يعرفهم سوى أهل قريتهم. ورحم الله غازي القصيبي حين كان يغازل الصحفيين بعبارته “أصدقائي الصحفيين” لافتاً لضرورة عدم معاداتهم من قبل المبدعين.

لقد خسرت الكثير بسبب كون الشاعر لدي مقدّم على كل شيء، فمزاج عالٍ أختار مناطق العمل الصحفي، وأحاول أن أكون صادقاً فيه قدر الإمكان، مراعياً في ذلك أن بعض الأعمال الخاصة بالحوارات أو الإصدارات الجديدة ما زالت تتلمّس طريقها في عالم الكتابة، وتحتاج لمن يأخذ بيدها إلى شاطئ السلامة. وكنت أحاول أن أقدّم لها فرصة الصرخة الأولى في وجه العالم لتقول كلمتها في الصفحات الثقافية العربية والمحلية.

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.