لسنا شعراء وصحفيين وحسب، إنما نحن كذلك بشر

0 161

مهدي سلمان – البحرين

ليس من الحكمة أن يتناسى الصحفيُّ الشاعرَ، ولا العكس أيضاً حسب ما أرى، ذلك أن ميزته في تركيبته هذه، في التفاف المثاليّ على الفضوليّ، في التداخل بين الحسّ القويّ باليومي، والتجريد الذي يستطيع تفكيك هذا اليومي إلى مجازات وأمثلة يستخلص منها النتائج العامة، القادرة على منح الصحفيّ طريقاً مختلفاً يسير فيه، وكذلك على منح الشاعر مادته التي منها ينهل للتفكير والقول.

أما كيف يستطيع هذا المزج، فهو أمرٌ عسير بالفعل، لكنه مثل كل مهارة، يستخلص بالتجربة، والمراقبة. أغلب الشعراء الصحفيين يقعون فريسة محاولتهم التخلّص من هذه الهبة، فيضيّعون فرصة مراقبة ذواتهم وهي تتشكّل من تجارب شتّى ومن معارف مختلفة ومتباينة، وكثير منهم أضاعوا الفرصة نتيجة وضع صحفي عربي قائم له محاذيره الكثيرة فيما يخص المُثُل والقيم الصحفية، ومن بينها مثلاً حرية التعبير، وحرية التفكير، فهذا أمرٌ خارج عن إشكالية هذه العلاقة، وقد يدخلنا إلى إشكالية العمل الصحفي برمّته في العالم العربي، لكن إن أوتي للشاعر الصحفي فرصة العمل، دون ضغط شديد عليه في هذا الجانب، فإنه يكون الأقدر على الانتقال بالعمل الصحفي من مرحلة السبق، إلى مرحلة التركيب والتحليل، وهي لا شكّ مرحلة متقدّمة في العمل الإعلامي، خصوصاً في عالم الصحافة اللحظية اليوم، حيث الخبر كسبق موجود ومتوفر وحاضر، إنما التقرير الذي يستطيع أن يركّب الأخبار والمعلومات بعضها ببعض يتطلّب العقل الشاعر، ذلك الذي لا يركن للمألوف والبديهي.

فيما يخص ما يمكن أن يقدمه الشاعر للصحفي، أول ما يمكن أن يتبادر للذهن هو اللغة، لكن ذلك هو الظاهر أيضاً فقط، إن الشاعر النابه حين يشتغل في مجال العمل الإعلامي، يستطيع أن يطوّع من لغته الإعلامية، ويرتقي بها، خلافاً للإعلامي المحض؛ إنه قادر على ملامسة القارئ بهذه الأداة الهبة التي أعطي إياها، فاللغة والمجاز متى ما أحسن استخدامهما، يمكن أن يكونا أداتين مهمتين في خلق علاقة مع القارئ وهو بغية الإعلامي في البداية، ثم إن العملية برمّتها، هي عملية تبادلية، ففي الوقت الذي يفكر فيه الشاعر بتطويع لغته للعمل الإعلامي، إنه كذلك يطوّع من لغته في الشعر، يتعلّم (لغة أخرى) يدخل بها إلى باب الشعر، والأمران سوياً، يشكلان عملية تفكير في اللغة، في معناها وجوهرها، وفي طريقتها في التوصيل، وكذلك في جوهر الأحداث والمفاهيم التي تتناولها اللغة، وذلك عمل يصقل بالتأكيد كلا الجانبين.

قد يستفيد بعض الشعراء من عملهم الصحفي في خلق علاقات، ومعارف، وذلك يمنحهم أولوية ما، سواء في الحصول على معلومات تجعلهم سابقين باتجاه مكاسب هنا أو هناك، أو على (وساطات) تمكنهم من تحقيق هذه المكاسب، وأعتقد أن هذا بالذات هو سوسة العمل الإعلامي، حيث تفتح نفس الشاعر على قتل الشعرية في نفسه، وتجعل منه مجرّد متسابق في خضمّ ما تحدثنا عنه من وضع إعلامي سيء قائم في عالمنا العربي، ولكن، الشاعر الحقيقي، والإعلامي الصادق في تبنيه قيم مهنته، يربأ بنفسه أن يقوم بمثل هذا، وربما لذلك تستطيع أن تميّز الإعلامي/ الشاعر ذا التوجه الصادق من خلال ما يعاني منه من إهمال في نصّه كشاعر أو مهنته كصحفي.

أما المكاسب والخسارات فذلك أمرُ القدر، خصوصاً حين نتكلم عن المدى الأبعد، فقد يحظى شاعر انتهازيّ ببعض المكاسب لفترة، ثم ما يلبث أن ترى خساراته، وقد يحدث العكس، وقد لا يحدث، وقد يظل الانتهازيّ رابحاً، كل ذلك أمرٌ قدري، ذلك أننا لسنا شعراء وصحفيين وحسب، إنما نحن كذلك بشر، يجري علينا ما يجري على البشر من تقلّبات، ويلاعبنا القدر كما يلاعب الآخرين، وأما الشاعر الحقيقي، فهو ينظر إلى ما يرى، لا لكي يأخذ عبرة، إنما لكي يخوض امتحاناته واحداً بعد الآخر، وهو متمسّك بقيمه، كإنسان في البداية، وكشاعر وإعلاميّ في النهاية.

لو كان بإمكاننا أن نرى أنفسنا أنصافاً، يحكم بعضها على بعض، ربما لقلت لك إن كل طرفٍ راضٍ عن الآخر، لكن، وبما أنني كلّ أنظر لكلي، فقد أكتفي بالقول إنني لم أوضع في اختباري الحقيقي لأصل إلى نتيجة قريبة من الحسم، لا كشاعرٍ ولا كصحفي، قد يكون من بين الأسباب ما ذكرته من واقعٍ سيء، لكن قد يكون القدر كذلك من بين الأسباب، ذلك أننا لا نعرف متى يحين موعد اختبارنا الحقيقي، الذي يمكن من خلاله أن نطمئن أو نقلق على ذواتنا، لقد خضت تجربة الاستقالة من عملٍ صحفي مهم، لأنني لم أكن راضياً عن وضع حرية التعبير في لحظة سياسية حاسمة في البحرين، وهذا اختبارٌ يرضيني مؤقتاً، حتى تتغيّر الأوضاع، فنرى كيف ستؤول مآلاتنا.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.