الصحافة مهنة كأي مهنة، وللشعر أفضال لا تحصى

0 150

محمد أبوزيد  – مصر

كلما طرح عليّ سؤال العلاقة بين الصحفي والكاتب، أطرح سؤالاً مقابلاً: لماذا الصحفي تحديداً هو مثار هذه العلاقة الجدلية؟ أليس لكل مهنة متطلباتها وعلاقتها بالأدب بطريقة أو بأخرى: هل يستفيد الطبيب النفسي من قراءاته لحالات مرضاه في كتابته؟ هل وكيل النيابة أو القاضي الذي يقابل كل يوم قضية مثيرة للجدل سيستخدمها في رواياته؟ هل المحاسب المشغول بالأرقام سيكتب نصاً مبنياً بدقة؟ هل الطبيب الذي يقابل كل يوم حالات وفيات وأمراض مثيرة للشفقة سيكون شاعراً فياضاً يكتب نصوص تمس شغاف القلب؟ هل يمكن أن يتناسى القصّاب مهنته عندما يبدأ في تدوين الأدب؟ أيحرم الجندي من الكتابة لأنه لا يعرف سوى الدماء والرصاص؟ الإجابة ببساطة على كل ما مضى أنه ليس هناك علاقة مباشرة بين الأدب وأي مهنة، لكن هناك استفادة مباشرة لكل “عامل” من مجال خبرته فيما يكتب، ولهذا قرأنا روايات ونصوص تصف أماكن وحالات لم يكن لها أن يكتبها إلا من عايشها.

لكن لماذا السؤال عن الصحفي تحديدا؟ هل لأنها مهنة مرتبطة بفعل الكتابة؟ لكن هناك مهن أخرى أكثر تماساً مع الكتابة مثل الترجمة التي تأخذ بعضاً روح الكاتب وهناك روائيون وشعراء كثر اتجهوا لهذه المهنة، دون أن تؤثر على نتاجهم الأدبي، وأيضاً هناك كتابة السيناريو التي تتماس بشكل كبير مع الكتابة الإبداعية، وهناك الكتابة النقدية والكتابة للأطفال وتأليف الكتب الدراسية.

أعتقد أن السؤال المباشر ربما يكون حول مكاسب الكاتب، شاعراً كان أم روائياً، “المهنية” من كونه صحفياً يستفيد من علاقاته و”جوقته” في الترويج لنفسه. وهنا يجب أن نوسّع مفهوم الصحفي الذي تطوّر مع الوقت، فالصحفي لم يعد ذلك الذي يعمل في صحيفة ورقية أو مجلة شهرية أو موقعاً إلكترونية، بل هو ذلك الذي يملك حساباً نشطاً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يستطيع من خلاله الترويج لنفسه أو لغيره، ويمكن اعتباره واحداً من “المؤثرين”، وهو أيضاً يمكن أن يكون واحداً ممن أصبح يطلق عليهم لقب “صناع المحتوى”، وربما يكون أيضاً يملك قناة ترويجية للكتب أو غيرها على يوتيوب أو تيك توك أو إنستغرام، وهو أيضاً ربما يكون إعلامياً أو معداً في أحد برامج قناة فضائية، وليس مهماً مدى تأثيرها.

إذا نظرنا للأمر من هذه الزاوية، فالسؤال المطروح حول علاقة الشاعر بكونه صحفياً، سيكون إشكالياً إلى حد كبير، وإجابة السؤال حول الاستفادة هنا متروكة للزمن، فكم من شاعر استفاد من كونه صحفياً بأن طبع الكتب ودُبّجت عنه المقالات وسافر للمؤتمرات وترجمت أشعاره لكنه في الواقع لم يترك أي تأثير يذكر، وانحسرت عنه الأضواء بمجرد أن ترك منصبه الصحفي، وعاد وحيداً مع قصائده التي شبعت ترويجاً، لكنها لم تترك أثراً.

بالنسبة لي أفضل النظر لمهنة الصحافة بالنسبة للشاعر، باعتبارها مهنة كأي مهنة أخرى، لها أضرارها وفوائدها وآثارها الجانبية، وهناك مهن أكثر احتكاكا كما قلت بالكتابة مثل كتابة السيناريو للأفلام، ولنا في نجيب محفوظ مثلاً، فقد كتب (30) سيناريو ومعالجة درامية لأفلام سينمائية جميعها ليست عن أعماله الأدبية، وهو هنا يجيب على سؤال “المصلحة الشخصية” بالابتعاد عن كتابة سيناريوهات لأي رواية من رواياته ويقول ـ في حوار معه ـ إنه فعل ذلك لأنه أراد أن يكون إخلاصه للكتابة متحرراً من دوره ككاتب سيناريو. وبهذه الطريقة المحفوظية يمكن للشاعر أن يتخلص من ضجيج مهنته كصحفي، ويخلص للكتابة، فضلاً عن أن المحك الأساسي في الأمر كله هو الموهبة، فالكاتب في النهاية لن يعيش بلا عمل يقتات منه، وكل ما عليه فقط أن يفصل بين دوره ككاتب، وكصحفي، لغة وأسلوباً وأفكاراً. أعرف أن الفصل التام شبه مستحيل، لكن إذا كان الكاتب موهوبا ومخلصاً لإبداعه سيستطيع أن يتخلص من أي تأثيرات جانبية، بل يمكن أن يستفيد في “مهنته” أياً كانت من كونه مبدعاً.

بالنسبة لي، فأعتقد أنني استفدت في عملي كصحفي من كوني شاعراً، وليس العكس، وهو أن الكتابة عموماً تستدعي القراءة، وتساهم في توسيع مدارك الصحفي ومعرفته بما حوله ووعيه به، ساهم كوني شاعرا بالتأكيد في تحسين لغتي وتذوقي وتوسيع زاوية رؤيتي للأمور. وهذا فضل كبير للشعر من ضمن أفضاله التي لا تحصى عليّ.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.