أنت السّبب

لذة الغواية - نصوص وشة الكتابة القصصية

0 664

إبراهيم عباس – مصر

تقود سيارتها بلا وجهة، تغوص في الشوارع المزدحمة ولا تشعر بمن حولها ولا ما حولها، تغمغم وتصرخ، وتعود فتغمغم وتسب بلا كلمات، تخاطب أحدا غير موجود، فهي لا ترى في الشارع أحدا على امتلائه بالسيارات والمارة. ضربت على مقود السيارة عدة ضربات، فأصدرت أجيجا وأبواقا غير منتظمة.

ليس من العادي استخدام أبواق السيارات إلا عند الإشراف على حادثة كبيرة أو مخالفة خطيرة! ولكن لما كان قطار السيارات يسير في الشارع ببطء فليس ثَمة حادثة كبيرة ولا صغيرة!

انتبهت للحظة أن قائد السيارة التي أمامها قد لوى رأسه من نافذة السيارة ليرى سبب الأبواق الصارخة، فظنته يعاكسها فكالت له سبابا في نفسها، ثم رأته يشيح بيده إشاحة صغيرة لا توحي بمعاكسات الرجال للنساء السائقات، أدركت حينئذ أنه غاضب منها، ولم تدرِ لمَ! فكالت له دفعة أخرى من السب بصوت عالٍ قليلا. ماذا فعلت ليشيح هذا الوقح بهذه الطريقة؟!

أدركت – بغير يقين – أنها قد تكون فعلت شيئا لم تنتبه له أثناء عراكها مع نفسها، ثم تذكرت العراك، فسبت الرجل مرة ثالثة إذ قطع عراكها مع الشخص غير الموجود، وانحنت بسيارتها جانبا حتى لامست مقدمة سيارتها بحائط خراساني أصم، وتوقفت لتكمل المعركة دون مقاطعات.

أخذت نفسا كاد يُفرغ السيارة من الهواء، ترددت هل تفتح النافذة؟ ثم ضربت الزجاج ولم تفتح.

أضحت كلماتها مفسرة، وصوتها مرتفعا، وجسدها أخذ يرتج مع كل جملة.

قالت غاضبة: كيف؟ ولم تكمل!

لماذا؟ ولم تجب!

أنا الغبية! أنا من فعلت ذلك في نفسي!

كيف لي أن أفعل ذلك، كم أنني حمقاء!

وأخذت تفور في مكانها وتتمدد، وتعيد ضرب المقود!

لقد كان لي، هو الوحيد الذي رفض تصوراتي عن نفسي وعن حماقاتي! لقد رفض أن يصدق صورتي التي أُصدِّرها لنفسي وللآخرين.

لقد ولّد مني روحا جديدة، اكتشف عندي أرضا لم تطأها نفسي!

تهتهت ثم أردفت: لقد، لقد كنت لا أعرفني، وعرفني هو. لم يبال بتصرفاتي، التي كانت كغابات شوك خزّت وجهه وجسده.. لقد اقتحمني رغم معاندتي، واخترقني رغم مقاومتي، حتى دخلني!

دخل بيت نفسي المبعثر فنظّمه، وقَمَّه، ومسح مصابيحه فأضاءتني، لا، هو من أضاءني فبانت مصابيحي، ولم يكتف بذلك فأصلح كسور البيت التي خلّفها السابقون، ودَهَن الجروح حتى طابت.

أحاطني بجسده حين هبّت رياحي، فحماني من غباري، وأغلق بيديه أذنيّ فحجب عني صريري، ولم أعبأ بأن أذنيه قد أصابها الشَّوَش! ووقفت مستمتعة بذلك الذي يضحي من أجلي، ويحميني مني!

لم أتجاوز راحتي بتظليله. لم ألتفت إلى أتربتي التي تجاوزت جسده إلى روحه!

وعادت الأسئلة كدفعة إبَرٍ مبعثرة تخز رأسها!

كيف لم أتجاوز حدود أنانيتي فأضمه، فأزيل – على الأقل – ما كنت سببا فيه؟!

كيف لم أنتبه إلى أن ظهره قد اكتسى أشواكي.

ألقت برأسها على مقعد السيارة، ووضعت كفيها على وجهها، وغارت في داخلها.

أريدك أن تغني لي أغنيتك، أغنيتي:

الله من دلع النساء وكيدهن.. ومن جنونك يا حياتي

ما الحل يا مشكلة، يا مدلله، ما الحل؟

ما الحل يا مشاغبة، يا متعبة، ما الحل؟

تتسرعين، فتغضبين، فتندمين..

ويشدد الحروف وهو ينطق: فتطلبين مغازلاتي!(1)

تحول رأسها من جديد إلى مشغَب، وصدرها إلى مِرجَل، وعصفت بها الأسئلة: أهاتفه؟ أراسله؟ أعتذر؟! أتودد؟ أتوسل؟ وعشرات الأسئلة.

هل سيكلمني كعادتنا؟ هل تراه يوبخني؟ ليته يوبخني ويعود إليّ. سأصمت، سأبتسم وهو يقرعني، لن أترك يده وإن أشاح، سأثبت عينيَ على عينيه وإن أطلقت شررا، سأوافقه في كل ما سيقول، بل سأزيد على قوله، سأسبني حين يتوقف لالتقاط أنفاسه.

تذكرت أن هاتفها في حقيبتها، فاندفعت بيديها إليها كالسهام، وأخذت تقلبها حتى وصلت إلى هاتفها، ونظرت والرجاء يملؤها، فلم تجد شيئا، فأطلقت زفرة طويلة، وهي تلقي بهاتفها في زجاج السيارة.

عضّت مقود السيارة وهي تتذكر: سأصبر عليك صبر الدنيا جميعها، فاطمأننت، ونسيت دائما: فإذا نفذ صبري فلا أطيق ولو أتيتني بألف شفيع!

مالت بجذعها ومدت يدها تعبث في أرضية السيارة بحثا عن هاتفها من جديد، لم تنتبه إلى الكسور التي أصابته، ولا موضع الكسر في زجاج السيارة.

فتحت الهاتف بسرعة، وسجلت: أرجوك، ولم تكمل!

حذفت الرسالة، وعضت شفتها السفلى، ومالت برأسها على المقود، وقد تلاحقت أنفاسها. ثم اعتدلت. سجلت رسالة أخرى: دعك مني فأنا لا أستحقك! ثم مسحتها.

صمتت قليلا، ثم انفجرت في نشيج طفولي يائس، وبينما تنتحب لعنَتْ نفسها، وحياتها، وغباءها، وما كانت عليه قبله، وما ستكون عليه بعده.

حين وصلت إلى هنا كانت كالمجنونة في هيئتها وحديثها. وقعت عينها على المرآة الجانبية من خلف الزجاج وقد سالت مساحيقها، واحمرت عيناها، وانحدر شعرها على جبهتها متلبدا بالعَرَق.

أعادت النظر في المرآة الداخلية وتأكدت أنها المجنونة ذاتها، فسبّته بعناد: ها أنا سأعود إلى تلك الكتلة البشعة، فلتفرح. وغلّظت صوتها وأردفت: أنت السبب، نعم أنت السبب! كيف تتركني؟!

(1) أغنية لكاظم الساهر، من كلمات كريم العراقي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.