دولة الرقابة لآذر نفيسي

0 463

ترجمة: بثينة الإبراهيم – سوريا

 

كلما استعرتُ كتابًا من المكتبة المحلية في واشنطن، واجهني ملصق أوريلي يقول “الأخ الأكبر يراقبك!”. وكثيرًا ما تساءلت إن كان الآخرون يقفون لتأمل المعاني المتضمنة في هذه الكلمات، إن كانوا يعلمون كم يمعن العيش تحت الرقابة في تشويه المجتمع، فهي تمسخ آراءك، وأخلاقك، وعلاقاتك بأصدقائك وزملائك وتلاميذك، وبأي نادل وسائق سيارة أجرة تلتقيه، بل إنها تمسخ علاقتك بنفسك.

احتفظت أثناء إقامتي في طهران في ثمانينيات القرن الماضي بمفكرة أكتب فيها بلغة سرية غبية لم أعد أستطيع فك رموزها. ولكي أكتب عن أقاربي وأصدقائي الذين اعتقلوا أو هربوا لئلا يعتقلوا، كنت أكتبهم في قالب روائي وأجعل من نفسي شخصية؛ امرأة متطبعة بطبائع الغرب، منسلخة عن تقاليدها، وترى كل شيء باللونين الأبيض والأسود. أما أمي فقد ابتكرت رموزًا لتفادي الرقيب حين تتحدث على الهاتف، ولم تتسم معظم حواراتها بالمنطقية. فكانت تقول بالفارسية مثلًا “الرجل مريض” للإشارة إلى أن الأمور تمضي على نحو سيء فيما يتعلق بالنظام، ثم تهمس متوترة “هل تفهم؟ هل تفهم؟”

لقد اخترقت الرقابة عقولنا وقلوبنا في سن باكرة، إذ أضيف الحجاب على رسومات كتب الأطفال مثل “أليس في بلاد العجائب”، و”صاحب الظل الطويل”، و”الحسناء والوحش”. وقد أخذ الخوف يستحوذ على ابنة أحد الأصدقاء التي تبلغ الثامنة من العمر كلما أرادت الذهاب إلى الحمام وحدها، لأن معلمة التربية الدينية أخبرتها أن كل خصلة من شعرها ستتحول إلى أفعى، إن اقتحمت الأفكار الكافرة عقلها.

كانت مشاهد الحب تقتطع دومًا من الروايات في صفوف الأدب في الجامعة، وتجتث كلمة “نبيذ” من قصص همنغوي. وكان الرقيب يمتعض إن كان للأشرار في الروايات أو الأفلام لحى أو لهم أسماء ذات طابع ديني. ظل مخرج مسرحي أعرفه يشتكي من ضرورة أن يكون كل مشهد لزوج وزوجة في غرفة النوم شجارًا، لأن اللطف كان محفوفًا بالمخاطر للغاية.

تبين لي حين كنت أكتب في إيران أن كلمات أو مواقف بعينها ستثير غضب السلطات على الفور. وكان علي، للكتابة عن الكتب التي أحبها، أن أتبنى منهجًا أكاديميًا للحديث عن الموضوعات التي تضج باللغة الحية والمبهجة. (وكنت أكتب بالرمز مرة أخرى). أردت الكتابة عن نابوكوﭫ، مثلًا، الذي غافلت بعض رواياته السلطات، وعن التداخل بين الخيال والواقع. لكني سرعان ما أدركت أن هذه مهمة مستحيلة، لا لأسباب سياسية فحسب، بل لأنني لم يكن بوسعي الحديث بصراحة عن حياتي الخاصة، فلم أستطع ذكر نقش صديقي العاطفي على الورقة الفارغة في كتاب “آدا”، أو عما كانت تعنيه لي الرواية بوصفي شابة.

وتعلمت عوضًا عن ذلك أن أكتب نقدًا أدبيًا خالصًا، وأن ألزم نفسي بالكتابة عن أدب الماضي. فقد كنت أكثر حرية هناك، إذ بوسعي الحديث بصراحة ونقد عن المجتمع، وكلما أسلمت نفسي للكتب الأقدم، رأيت كم كان الأدب أساسيًا وثوريًا في التاريخ الإيراني. فلم أدرك قبلًا العمق الذي تجذر به إحساسنا بهوياتنا في الشعر، ولا عجب أن الأميين يمكنهم  قول أبيات من القصائد الفارسية الكلاسيكية. وأدركت أن أهمية التغير الثقافي الجوهري في خلق إيران الحديثة بقدر أهمية الثورة السياسية. وأخذت أقرأ لكتاب من القرن العاشر، بدءًا من الشاعر الملحمي الفردوسي وحتى الشاعرات المعاصرات مثل فروغ فرخ زاد وسيمن بهبهاني.

إن الخوف هو السبب الحقيقي لرقابة الحكومة، وهو في هذه الحالة خوف الدولة من مواطنيها. إذ ترغب الحكومات التي تتجسس على شعوبها بالحصول على المعلومات، فلا تسيطر عندئذ على أعدائها فحسب، بل على الجميع، وتبقيهم في حالة الاشتباه بهم. وما يبدأ بوصفه حركة سياسية يجتاح سريعًا كل مظاهر الحياة، بما فيها فضاءاتنا الخاصة. وما ينشأ خوفًا من عدو، يُخلق أحيانًا في الواقع، يتصل سريعًا بالعادي والبسيط. ويصبح العدو زميلنا الغريب الأطوار، والجيران الجدد الذين يتحدثون بلغات أجنبية، والأشخاص الثلاثة الذين يتحدثون بهدوء إلى بعضهم بعضًا في قطار الأنفاق. وسرعان ما تصبح كل حقيبة حاملة قنبلة، وكل سؤال متضمنًا شَرَكًا، وكل الأماكن التي نشعر فيها بالراحة خطرة.

إنه يظل معك، ذلك الخوف، فهو يتسلل تحت الجلد. حتى بعد أن تهرب وتكون على بعد آلاف الأميال أو على بعد عدة سنوات، ستظل تشعر أحيانًا أنك مراقب. فقد دمرت شيئًا في داخلك المعرفةُ الفظيعة بقدرة الإنسان على القسوة وضعفك أنت في مواجهتها.

حين جئت إلى أمريكا عام 1997، نعمت لوقت طويل بحالة من الغبطة، لأني أتمتع بالحرية لقول أي شيء لأي أحد. لكن الغبطة لا تدوم طويلًا في العالم الحقيقي أو في عالم الخيال. فقد استولى علي الخوف الذي ظننت أنني خلّفته ورائي حين هاجرت. لقد كانت الرقابة والعنف على المواطنين في إيران مكشوفة وواضحة، لكنها هنا مخاتِلة. نحن مهددون هنا باللامبالاة. أخشى من سيطرة الجهل على المواطنين غير المطلعين على تاريخهم أو تاريخ الآخر وحضارته. فكيف يمكننا العثور على إجابات للمآزق التي نواجهها، دون أن نعرف ما هي الأسئلة؟

أعرب سول بيلو عن قلقه إزاء قدرة الذين نجوا من محنة الهولوكوست على النجاة من محنة الحرية. لست أخشى من محنة الحرية، بل أخشى اللحظة التي سنكف فيها عن النظر إلى الحرية بوصفها محنة.

آذر نفيسي
آذار نفيسي كاتبة إيرانية، أستاذة في جامعة جونز هوبكنز. حائزة على زمالة من جامعة أوكسفورد عملت في إيران كأستاذة للأدب الإنجليزي في جامعة طهران والجامعة الإسلامية المفتوحة وجامعة العلامة الطباطبائي وقد فصلت من جامعة طهران بسبب رفضها ارتداء الحجاب غادرت إيران إلى الولايات المتحدة عام 1997. كتبت الكثير من المقالات في الصحف مثل نيو يورك تايمز واشنطن بوست وول ستريت جورنال ونيويورك ريببلك. وصدر لها أن تقرأ لوليتا في طهران, لافًا لتيرا دراسة نقدية لروايات فلاديمير نابوكو , أشياء كنت ساكتة عنها وجمهورية الخيال: أمريكا

مترجمة وكاتبة سورية، صدر لها العديد من الأعمال منها الأخلاق في الحداثة السائلة (بالاشتراك مع د. سعد البازعي) عن مشروع كلمة، وأمريكانا لتشيممندا أدتشي عن دار روايات، وصاحب الظل الطويل لجين وبستر عن منشورات تكوين.

قناة التلغرام أشباهنا في العالم

https://t.me/ibothina

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.