رجفة قلب – قصة قصيرة للكاتب الكندي مورلي كالاهان

0 986

مورلي كالاهان- كندا

ترجمة: نادية عبد الوهاب خوندنة-السعودية *

بنهاية وقت الدوام في الصيدلية خلع ألفريد هيجنز معطفه الأبيض وارتدى معطف الخروج استعداداً للذهاب إلى المنزل. وبينما كان مالك الصيدلية ذو الشعر الرمادي الخفيف، السيد سام كار، منحنياً خلف ماكينة دفع الحساب، مر بجانبه ألفريد فنظر إليه وقال بلطف: “لحظة من فضلك، أود التحدث إليك قبل ان تذهب”.

إن الطريقة اللطيفة والواثقة التي تحدث بها السيد سام كار جعلت دقات قلب ألفريد تتسارع لدرجة أنه أحس بصعوبة في التنفس، وأخذ يقفل أزرار معطفه بطريقة عصبية وهو متأكد من أن وجهه كان يبدو شاحباً فلقد اعتاد السيد سام على تحيته بطريقة جافة وبدون ان يرفع رأسه ففي خلال الستة شهور التي قضاها ألفريد في العمل هنا لم يسمع صاحب العمل يتحدث معه قط بمثل هذه اللطف.

“ما الأمر يا سيد كار”

“يحسن بك أن تخرج بعض الأشياء من جيبك وتضعها هنا قبل أن تغادر المكان.”

“أي أشياء؟ عم تتحدث”؟

“يوجد في جيبك علبة تجميل، أحمر شفاه وأنبوبان من معجون الأسنان يا ألفريد.”

فأجابه الفتى بغضب وقد أحمرّ وجهه “ماذا تقصد؟ هل تعتقد أنني مجنون؟”. لقد كنت على ثقة بأنه كان يبدو غاضباً وناقماً، ولكن السيد سام كار الذي كان واقفاً بجوار الباب وعيناه الزرقاوان تلتمعان خلف نظارتيه وشفتاه تتحركان تحت شاربه الرمادي، هزّ رأسه عدة مرات الأمر الذي أخاف ألفريد كثيراً وجعله في حيرة لا يدري ماذا يقول.

رفع ألفريد يده وأدخلها ببطء في جيبه، وبدون أن ينظر في عيني السيد سام كار أخرج علبة تجميل زرقاء اللون وأنبوبين من معجون الأسنان وأحمر شفاه ووضعها جميعها على المنضدة.
“سرقة صغيرة؟” سأله سام، “هل تتكرم وتخبرني كم من الوقت مرّ على هذه الحال؟”

“إنها المرة الأولى التي آخذ فيها شيئاً”

أجابه السيد سام كار وهو متجه صوب ماكينة دفع الحساب ليقف خلفها: “هل تعتقد أن بإمكانك أن تكذب علي؟ أي ساذج تظنني حتى لا أعرف ما يجري في متجري؟ لقد كنت تقوم بهذه السرقات الصغيرة مراراً وتكراراً.

منذ أن ترك ألفريد المدرسة وهو يواجه المشاكل كلما ألتحق بعمل ما، وكم كان والداه سيسعدان إن تمكن من الاستمرار في أي وظيفة، وقد كان لا يزال يقيم في منزل العائلة مع والدته ووالده الذي يعمل عامل طباعة، أما أخواه اللذان يكبرانه فكانا متزوجين كما قد تزوجت أخته في السنة الماضية.

كان السيد سام يبتسم وهو يربت بلطف على خده بأطراف أصابعه، بينما أحس ألفريد  بالرعب يزداد في داخله وهو الأمر المعهود الذي كان دائماً يواجهه كلما مر بنفس المشكلة.
“لقد أحببتك ووثقت فيك، ولكن أنظر الآن إلي ما يجب عليّ فعله.”

نظر ألفريد بعينيه الزرقاوين الممتلئتين بالخوف والترقب إلى سام وهو ينقر بأصابعه على المنضدة، فقال له سام بقلق: “الأمر جليّ ولكني لا أرغب في استدعاء الشرطة. أنك غبي. يجدر بي استدعاء أبيك وإخباره بأنك غبي وتستحق أن تحبس”.

“أبي غير موجود بالمنزل فعمله في الطباعة يتطلب منه دواماً مسائياً.”

“ومن يوجد بالبيت الآن؟”

“أمي.”
فقال السيد سام: “لنرى ما ستقول.” وأتجه نحو الهاتف وطلب الرقم. لم يكن ألفريد خجلاً، بل كان يحس بخوفٍ عميقٍ يتصاعد في داخله، وفجأة قال بكبرياء رجل قوي: “على رسلك، أنك لست بحاجة إلى تدخل أي شخص آخر، وبالتالي لست بحاجة إلى إخبار والدتي بالأمر”.
لقد أراد أن يبدو في خيلاء رجل يمكنه الإهتمام بشؤونه الخاصة بنفسه، ولكن في ذات الوقت، كان تتنازعه الرغبة الطفولية القديمة نفسها بأن أحداً من عائلته سيأتي لمساعدته.
“إن ابنك يعمل لديّ، نعم سيدتي، وهو الآن في ورطة ويحتاج حضورك سريعاً.”
توجه السيد كار نحو باب الصيدلية بعد ان أقفل الخط وظل واقفاً هناك ينظر إلى الشارع ويراقب حركة المارة في تلك الساعة المتأخرة من إحدى ليالي الصيف ولم يقل شيئاً سوى: “سأنتظر مرور شرطي من هنا”.

لقد كان ألفريد على ثقة أن والدته ستأتي بسرعة وتقتحم المكان بينما عيناها تبدوان متوهجتين، بل ربما ستدخل باكية ولن تصغي إليه إن حاول ان يكلمها لتشعره بازدرائها له، وبالرغم من كل هذه المخاوف كان ألفريد يتمنى وصول والدته قبل أن يمر شرطي من أمام باب الصيدلية.
لم يتحدثا خلال فترة انتظارهما التي بدت طويلة جداً، وأخيراً سمعا طرقاً على الباب ففتحه السيد كار وعلامات الصرامة والشدة تكسو وجهه وقال بكل وضوح: “تفضلي يا سيدة هيجنز”.
كانت السيدة هيجنز كبيرة الحجم وسمينة، تلوح على وجهها الودود إبتسامة ولكن هيئتها توحي بأنها كانت تتهيأ للذهاب إلى النوم عندما هاتفها السيد كار، فشعرها كان لم يكن مرتباً تحت قبعتها وكانت يدها تحكم إمساك معطفها حتى لا يبدو ثوبها من تحته.

لم تتمكن السيدة من رؤية ابنها الذي كان يقف في منطقة مظلمة حيث كانت معظم المصابيح في المكان مطفأة وحالماً رأته لم تبد على الصورة التي توقعها ألفريد إطلاقاً، بل على العكس، كانت باسمة وهادئة لم يطرف لها رمش، يبدو عليها الوقار مما صرف انتباههما عن هيئتها التي تدل أنها قد جاءت على عجل.

مدت يدها لتصافح السيد كار وقالت بأدب جم: “السيدة هيجنز، والدة الفريد”.
لقد أحرج هدوء السيدة وبساطتها السيد كار الذي خانته الكلمات فلم ينبس ببنت شفة فسألته السيدة: “هل يواجه الفريد مشكلة؟”

“نعم. منذ مدة وهو يسرق من المحل بعض الأشياء الصغيرة التي يسهل بيعها بعد ذلك مثل أدوات التجميل ومعاجين الأسنان وقد ضبطته هذا المساء بالجرم المشهود”.
في أثناء استماعها لاتهامات السيد كار كانت السيدة هيجنز تنظر إلى ابنها وتهز رأسها بحزنٍ، ثم سألته بجدية بالغة: “هل الأمر كذلك يا ألفريد؟”

“نعم.”
” ولم كنت تقوم بذلك؟”

“لأتمكن من الإنفاق على بعض الأمو.

“وما هي تلك الأمور؟”

“الخروج مع الأصدقاء.”

لمست السيدة هيجنز ذراع السيد سام كار، وقالت له بطريقة لطيفة تنم عن تفهمها لموقفه وكأنها تخشى أن تزعجه: “ربما يمكنك أن تستمع إليّ قبل أن تتخذ أي إجراء”.
إن صدقها مع ذاتها جعلها تشعر بالخجل، واحساسها بالخزي جعلها تهتز وتنظر بعيداً، ولكن سرعان ما عادت إليها ابتسامتها ووقارها فسألته باحترام وسعة صدر: “ماذا نويت أن تفعل يا سيد كار؟”.

“كل ما في الأمر أنني فكرت في إحضار شرطي”.

“نعم. إنك على حق وإنني أدرك أنه لا يحق لي منعك من ذلك لأن المتهم هو ابني، ولكنني أعتقد ان النصيحة المخلصة في بعض الأحيان هي كل ما يحتاجه الفتى في فترة معينة من حياته”.
لم يستطع ألفريد أن يصدق عينيه وهو يرى والدته تحافظ على رباطة جأشها في مثل هذا الموقف، لأنه لو كانا في البيت وجاء من يخبر أمه أنه سيلقي القبض على ابنها لغضبت بشدة وصرخت في وجه ذلك الشخص.. وها هي الآن تقف وعلى محياها إبتسامة رقيقة توحي بالإعتذار: “كنت أتساءل إن كان يمكنك أن تدعه يأتي معي إلى البيت؟ يبدو فتى كبيراً، أليس كذلك؟ ولكن بعض الفتيان يحتاجون وقتاً أطول من أقرانهم ليصبحوا على درجة كافية من التعقل” واتجهت نظرات السيدة هيجنز والسيد كار صوب ألفريد الذي غادر مكانه بعيداً عنهما، ولوهلة توهج وجهه النحيل ووجنتاه اللتان غطاهما بعض حب الشباب.
عندما ابتعد ألفريد لشعوره بالحرج والضيق، كان يدرك أن السيد كار قد عرف أن أمه سيدة رقيقة حقاً، ولابد أن هذا الأمر قد جعله يشعر بالحيرة كما لو كان قد توقع منها أن تأتي باكية متوسلة، وبالعكس إن جَلَدها وصبرها أشعراه بالخجل. وبينما لم يتردد في المكان سوى صوت والدته الناعم ذي اللهجة الواثقة، كان السيد كار يهز رأسه مؤمِنّاً.. وبدلاً من أن يبدو عليها أي قلق أو ارتباك، كانت السيدة هيجنز تملأ المكان الخافت الإضاءة بثباتها وبساطتها وتفاؤلها.
وجاءها رد السيد كار حينما قال: “إنني بالطبع لا أريد أن أكون فظاً، وسأخبرك بما أنوي فعله: إنني فقط سأفصله من عمله وأدع الأمر يمر بسلام. ما رأيك بهذا الحل؟” ثم نهض وصافحها وأومأ لها برأسه في احترام بالغ.

“لن أنسى لك هذا الجميل أبداً ما حييت”

أجابته بنبرة صدقٍ وعرفانٍ بالجميل، مما جعله يحس هو أيضاً بالارتياح والسرور وقال لها: “يؤسفني أن نلتقي في مثل هذه الظروف، كل ما في الأمر أنني أردت ان أفعل ما اعتقدت أنه الصواب، وعموماً قد سررت بمعرفتك”.

“تصبح على خير يا سيدي”.

“تصبحين على خير يا سيدة هيجنز وأكرر لك أسفي”.

خرجت السيدة وابنها إلى الشارع، كانت الأم تمشي بخطوات واسعة وثابتة وهي تنظر إلى الإمام، بينما كان وجهها الجاد يعكس ما كانت تعاني من قلق. كان ألفريد خائفاً من أن يتحدث إليها، ولكنه في الواقع كان متوجساً من الصمت الذي ساد بينهما، فما كان أمامه سوى أن ينظر إلى الأمام مثلها وشعور بالارتياح يغمره، ولكنه لبرهة كان يرى أن المضي في السير في صمت مطبق كان يشعره وبشدة بمدى القوة والجدية اللتين تعتملان في داخلها.. ترى بماذا تفكر وهي تسير هكذا متجهمة محدقة أمامها؟ هل نسيت أنه يمشي إلى جانبها؟ لكن دوي قطار الجادة السادسة كسر حاجز الصمت بينهما، فقال لها وهما يعبران من أسفل الجسر، بطريقته العاصفة كما هي عادته دائماً: “الحمد لله أن الموضوع قد انتهى بسلام، وأؤكد لك أنني لن أتورط بمثل هذا الموقف مرة أخرى”.، فأجابته بمرارة: “إهدأ ولا تكلمني لقد اخجلتني مراراً وتكراراً”.
“إنني فقط أخبرك بأنها ستكون المرة الأخيرة”.

فأسكتته على الفور بقولها: “احترم نفسك وأصمت” واستمرا في السير والنظر إلى الأمام.
عندما وصلا إلى المنزل وخلعت السيدة معطفها فوجئ ألفريد أن أمه لم تكمل ارتداء ملابسها عندما خرجت على عجل، وقد أخافته مجدداً عندما قالت له – بدون أن تنظر إليه: “إنك مصدر نحس، سامحك الله فأنت تسبب المشكلة تلو الأخرى. لماذا تقف هكذا بغباء بدون حراك؟ لم لا تدخل إلى غرفتك لتنام؟”

وعندما تحرك باتجاه غرفته قالت له: “سأصنع لنفسي كوباً من الشاي، عليك ألاَّ تذكر شيئاً مما حدث لوالدك”.

كان صوت تحركاتها في المطبخ يصله في غرفته وهو يتهيأ للنوم.. ملأت غلاية الماء ووضعتها على الموقد.. وها هي تحرك كرسياً.. كان يسمع فقط، لم يخالجه أي شعور بالخجل، بل كان يتعجب من قوة شخصيتها واتزانها وهما صفتان يقدرهما كثيراً في والدته.
لا يزال منظر السيد سام كار ماثلاً أمام عينيه وهو يومئ برأسه مشجعاً لها.. ولا يزال صدى كلماتها يرن في أذنيه وهي تتحدث بهدوء ووقار.. جلس على سريره والفخر بقوتها يملأه وحدّث نفسه قائلاً: “لابد أن أخبرها أنها كانت رائعة في اظهار كبريائها”.
نهض ألفريد من سريره وتوجه نحو المطبخ وعندما وصل إلى الباب رأى أمه تصب لنفسها كوباً من الشاي.. فظل واقفاً يراقبها من مكانه.. فرأى علامات خوف وانزعاج تكسو وجهها الذي بدا مختلفاً تماماً عما كان عليه من الثقة والصلابة عندما كانا في الصيدلية.. وقد كانت يدها ترتجف وهي تسكب الماء المغلي في الكوب فتطاير رذاذ الماء على الموقد ثم جلست على كرسي وأسندت ظهرها إلى الخلف.. تنهدت ورفعت الكوب إلى شفتيها اللتين كانتا تتلمسان طريقيهما إلى الكوب.. ارتشفت الشاي الساخن بلهفة ورفعت قامتها بارتياح على الرغم من ان يدها الممسكة بالكوب كانت لا تزال ترتجف.. كانت تبدو وكأنها شاخت فجأة.
أدرك ألفريد أن هذه هي حال أمه في كل مرة يتعرض فيها لمشكلة ولابد أن هذه الرجفة كانت تعتمل في داخلها وهي تهب مسرعة لمساعدته.. وأخيراً فهم لماذا جلست وحيدة في المطبخ في الليلة التي كانت فيها أخته الصغرى تكرر على وتيرة واحدة أنها ستتزوج..
الآن فقط أحس بما كانت تفكر فيه وهما في طريق العودة إلى المنزل.. ظل ينظر إليها بصمت، وفي تلك اللحظة أحس أنه غادر ملاعب الصبا وأنضم إلى عالم الرجولة..

أواه يا أمي الحبيبة إن رجفة يدك الحنون قد اختزلت سنوات عمرك كلها.. وكأنني أسبر غور سنوات عمرك كلها بشفافية ولأول مرة.

 

*نادية عبد الوهاب خوندنة

تحاضر عن الأدب انجليزي بجامعة أم القرى، عضو نادي مكة الثقافي الأدبي، ومعهد توماس مور للأبحاث، ورابطة اللغة الحديثة وكلية التعليم المستمر بجامعة ميغيل، مجلس أمناء جائزة عوشة بنت خليفة بدولة الإمارات العربية المتحدة وعضو لجنة تحكيم مهرجان ACFF السينمائي بمونتريال. صدر لها العديد من المؤلفات منها” لطائف المعنى: دراسات في السرد الأدبي السعودي” و “رجل لا شرقي ولا غربي” وهو ترجمة إلى الإنجليزية للمجموعة القصصية للدكتورة زينب الخضيري، وكذلك العديد من القصص القصيرة من اللغة الإنجليزية والألمانية إلى العربية والتي نشرت في الدوريات المتخصصة. شاركت مع د. شهاب غانم ومجموعة من المترجمين في اصدار كتاب “شموع ذات ألوان” لمجموعة من القصائد العربية مترجمة إلى الإنجليزية وقدمت الكثير من المحاضرات الثقافية العامة في المنتديات الأدبية السعودية وجامعة ميغيل بكندا.

مورلي كالاهان
روائي كندي وكاتب قصة قصيرة ومسرحيات شهير (1903-1990) يعتبر أحد أفضل كتاب القصة القصيرة في وقته. أمضى بضعة أشهر من حياته في باريس، حيث كان جزءًا من التجمع الكبير للكتاب في مونبارناس الذي ضم إرنست همنغواي، وعزرا باوند، وجيرترود شتاين، وإف سكوت فيتزجيرالد، وجيمس جويس. وأحدث أثرا بالغا في الأدب.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.