قوص: متحف مفتوح للعراقة التاريخية والتنوع الثقافي*

0 822

الدكتور عاطف معتمد

حضارة ملقاة على قارعة الطريق

إذا زرت قوص ولم تكن قد قرأت شيئًا عن تاريخها من قبل فستبخسها حقها. لن ترى عيناك فيها ما قد يختلف عن بولاق أو إمبابة أو دار السلام في القاهرة؛ إذ ستقدم لك قوص نفسها ريفًا استحال إلى مدينة أو مدينة “غارقة في التريف!”.

أنت تسيء الظن بقوص على هذا النحو، وتقرأ الحاضر المتدهور مغمضًا طرفك عما كتبه المؤرخون عن قوص التي كانت وِفقًا لوصفهم قبل ألف سنة “أعظم مدينة مصرية بعد الفسطاط” على طول النيل.

قوص مدينة ثرية بالحضارة لدرجة أنك تجدها “ملقاه على قارعة الطريق”. في هذه المدينة ازدحام أثري يجاور كل فصل فيه الآخر بدرجة مدهشة: مصري قديم – يوناني-روماني- قبطي – إسلامي.

أحجار المعابد المصرية القديمة تزاحمها حيوانات الحقل وروث البهائم؛ المسجد العمري الذي يعد أول مسجد تأسس في المدينة مغمور وسط الزحام محاصر بسوق شعبي مكتظ وفوضى عارمة.

لو كنت قرأت من قبل عن قوص ستسأل نفسك “أين هي تلك المدينة التي افتتن بها كل الرحالة، وأقام بها كل الملوك معابد وكنائس ومساجد؟

من الأسئلة الأخرى التي لن تجد لها تفسيرًا: لماذا كل هذه البطالة في شوارع المدينة؟

ما زلت أذكر ما قاله بعض الرحالة عنها من أنها “وطن العلماء …وجنة الأرض ….وملتقى تجارة عدن”

اشتهرت قوص بأنها ميناء التجارة النهري الذي كان يستقبل البضائع من عدن في اليمن فكانت محطة أخرى لجنة “عدن” المصرية على النيل.

وبينما أنا متخبط بين هذا المشهد وذاك تصادف أن ارتفع أذان الظهر، فدخلت المسجد العمري العظيم. صليت الظهر والعصر جمعا وقصرا ورأيت الأعمدة الرومانية التي استغلها المسجد بعد دخول الإسلام، تجولت للمرة الثانية بعد آخر زيارة للمسجد قبل عامين

منبر المسجد العمري بقوص

فأعدت اكتشاف ما فاتني في المرة السابقة ونظرت مليا إلى المنبر الخشبي العتيق الذي رفض أهل قوص مؤخرًا نقله لمتحف القاهرة لأنه جزء من عراقة المدينة العظيمة، ومن أعلى سطح المسجد أخذت الصورة المرفقة مع هذا المقال.

بعد الصلاة زرت الكنيسة الإنجيلية وتعرفت على رئيسها الذي أخذني واثنين من طلابي في الدكتوراه في جولة رائعة كاشفة لتاريخ الأثر المسيحي الذي يعود عمره لنحو مئتي سنة، ويؤكد فيه أصحابه أنها كنيسة قبطية نمت وتطورت في الداخل القوصي، ولم تفد مع الأوروبيين.

وبينما نتبادل التعارف مع القسيس الذي يرتدي زيًا عصريًا، ولا تفارق الابتسامة وجهه، دونت اسمه في دفتري: “الأب بسخرون”.

سألني وأنا أدون اسمه “هل تعرف معنى بسخيرون؟”

أسعفتني معرفتي باللغة الروسية التي بها كثير من المؤثرات اليونانية المسيحية فقلت له “أعرف أن بسخا تعني صوم أو الصبر على الصوم” فقالي لي “قربت جدًا”، ثم قال وابتسامة بهية تعلو وجهه: “تعني (القديس المتألم)”.

ودعت القديس المتألم، صاحب الابتسامة العريضة، والترحيب الكريم، وأكملت زيارتي لقوص باحثًا عن تاريحها العظيم.

الأسم (عمري) والبناة فاطميون

مسجد قوص الجامع ليس كأي مسجد في الصعيد. ما إن تدخل بوابته إلا وتتدافع الأسئلة في عقلك: متى بني هذا المسجد؟ لماذا سمي بالعمري رغم أن عمرو بن العاص لم يكن قد جاء هنا؟! ورغم أن المسجد بني بعد خمسة قرون على زمن عمرو بن العاص؟! ما هذه الأعمدة الرومانية الرخامية مقارنة بتلك الخشبية؟ كيف صمد ذلك المنبر المزخرف بأقدم الحلي والفنون إلى اليوم؟

هذه أسئلة البداهة. أما إذا صليت في المسجد، أو جلست فيه بعد الصلاة، فستشعر بقوى روحية حقيقية، طاقة سلام وصفاء ذهني تجددها أشعة الشمس الساقطة من بهو المسجد المفتوح إلى رب السماء الزرقاء.

المسجد العمري بقوص

من تسأل هنا وعندك مئة سؤال؟ من يسعفك كأمين المكتبة؟

تعلمت خلال بحثي المشترك مع د. صالح رجب قبل ثلاث سنوات، حين كنا نطوف على المساجد العمرية في الصعيد الأعلى، أن “العمري” هو اسم يطلق على أول مسجد جامع أسس في الإقليم، حتى لو جاء ذلك بعد عدة قرون من زمن “عمرو”.

تقول بعض القصاصات الصحفية المعلقة في المسجد، ويعود تاريخ نشرها لعام 2002، في حوار منقول عن وزارة الآثار إن المسجد أسسه الفاطميون قبل نحو ألف سنة، وجعلوا منه مؤسسة إسلامية متعددة الأغراض ليكون بحق “أزهر الصعيد”. على هذا النحو، يمكننا بوضوح معرفة أن الأعمدة الرخامية الرومانية الطابع مأخوذة من حضارات سابقة مر عليها أكثر من خمسة قرون من دخول الإسلام. لا توجد أية شبهة أن المسجد هنا أقيم على أطلال كنيسة، كبعض المساجد في كل العالم، بل قام “أزهر الصعيد” بـإعادة تدوير أطلال منشئات قديمة. تفحصت الأعمدة الرومانية الطابع في المسجد فلم أجد أثرا مسيحيًا، كنت قد كتبت هنا قبل عامين عن أحد الأعمدة التي عليها صليب من العهد البيزنطي ما زال محفورًا على أحد أعمدة مسجد شهير في مدينة “فوة” قرب رشيد في شمال دلتا النيل.

يضم “أزهر الصعيد ” أقدم منبر إسلامي خشبي محتفظًا بمعالمه في مصر الإسلامية منذ أكثر من ألف سنة وهو أحد المفاخر النادرة التي تعتز بها قوص كلها. مثل مسجد عمرو بن العاص، الذي تعرض لمرات عديد من التجديد والترميم، لدينا اليوم النسخة الأخيرة من مراحل تجديد المسجد العمري؛ ومثل المساجد التي كانت تؤدي وظيفة “الدنيا والدين” أقيم قبالة المسجد عديد من الاستراحات، والوكالات التجارية عبر العصور الإسلامية لقوص، وما تزال واحدة منها شبه متماسكة/ شبه معرضة للسقوط أمام المسجد حاليًا شاهدة على تاريخ مضى.

أن تكون الكنيسة قبطية وإنجيلية

يطيب لكنيستنا المصرية أن تسمي نفسها دوما بـ”القبطية”؛ وذلك لأن نشأة المسيحية في مصر قصة متفردة، ولتطورها سمات ومعالم وثيقة الصلة بالقبطيين (المصريين) أكثر من أي مسيحيين آخرين في العالم. لا عجب، إن قلنا إن كل المصريين أقباط، فالقبط كلمة منسوبة إلى بلدنا التي كان الغرباء واليونان والرومان والعرب الوافدين يعرفونها باسم “هيجيبت”، أو بشكل مختصر ينسبونها إلى طيبة وقنا ومدينتها الشهيرة “كوبتوس” أو “قفط” أو “قبط”. لذلك لا توجد كنيسة مسيحية في العالم تحمل اسم “قبطية” إلا كنيستنا. في روسيا، مثلًا، كنت شاهد عيان على وفود رجال دين من كنيستنا القبطية معتقدين أننا والروس أصحاب مذهب ديني واحد، وهو المذهب “الأرثوذكسي”. رغم ما في ذلك من صحة ظاهرية، إلا أنهم بعد فترة يكتشفون أن اشتراك المذهب لا يجمع كل شيء، وأن لكنيستنا القبطية تفردها وتميزها.

الكنيسة القبطية الانجيلية بقوص

لكل ما سبق، تجدني وقفت في مدينة قوص بصعيد مصر معجبًا باسم كنيسة كبرى قبالة المعبد البطلمي وغير بعيد عن المسجد العمري تحمل اسم “كنيسة الأقباط الإنجيليين”.

أن تكون الكنيسة قبطية وإنجيلية في آن فهذا أمر يدعو للتعلم والفهم واكتساب معلومات جديدة.

معرفتي بالكنائس الإنجيلية طفيفة سطحية، بعضها مستمد من ترجمات لمقالات أجنبية التي يشترك جميعها في أن الكنيسة الإنجيلية لا تكترث كثيرا بالمظاهر أو الطقوس الشكلية، إذ يهمها في المقام الأول الوصول للإنسان.

المعماري الذي شيد الكنيسة الإنجيلية في قوص، غير بعيد عن المسجد، كان ذكيًا للغاية. أقام نمطًا محاكيًا في التصميم للمسجد، فحل برج الكنيسة محل منارة المسجد؛ فاعطته استيطانًا للفن والعمارة مؤكدًا على وحدة الهوية، رغم اختلاف الدين، ورغم فاصل أكثر من ثمانية قرون بين المسجد العمري والكنيسة الإنجيلية الحديثة.

حين أشرت، في إحدى كتاباتي، أنني زرت الكنيسة الإنجيلية في قوص، تفضل أحد أساتذة الدراسات المسيحية في مصر بأن أرسل لي مقالًا عن تاريخ كنيسة قوص الإنجيلية. المقال منشور، في ديسمبر 2020، في مجلة تحمل اسم “الهدى”. يقول الأستاذ الجليل الذي أرسل لي المقال إن “الهدى” مجلة عريقة، صدر العدد الأول منها في 1911، ومستمرة حتى الآن وهي مجلة الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر. في المقال الذي يحمل عنوان “الكنيسة الإنجيلية في قوص” يعطي المؤلف (وهو نفسه الأب بسخرون الكريم البشوش الذي قابلته في زيارتي

لقوص) تعريفا بتاريخ الكنيسة التي تأسست في 1868 ويبين كيف أنها تطورت من مناخ قبطي خالص.

فسلام على قوص وأهلها.

 

<strong>الدكتور عاطف معتمد</strong>
  • أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب بجامعة القاهرة
  •  عمل كأستاذ زائر في عدد من الجامعات الدولية في فرنسا وألمانيا وروسيا ورومانيا وسلوفانيا
  •  نفذ العديد من الرحلات الاستكشافات والرحلات العلمية لمناطق مختلف في مصر والعالم.
  •  بالإضافة إلى اسهاماته الثرية بتأليف الكثير من البحوث والكتب العربية، ترجم إلى العربية مجموعة من الكتب والمعاجم عن الإنجليزية والروسية.
  •  حائز على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية. المجلس الأعلى للثقافة، وزارة الثقافة المصرية
  • مؤسس ومدير موقع بيت الجغرافيا

*  أعدت هذه المادة، بعد موافقة الدكتور عاطف معتمد، وبالاعتماد على تدويناته عن مدينة قوص المنشورة بصفحته على الفيسبوك بتاريخ 27 و28 ديسمبر 2020، و2 يناير 2012.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.