ممنوع النوم في فريجنا ليلة الجمعة !!

0 772

علي الغوينم – السعودية

بعد صلاة العصر، في أغلب أيام الخميس، تدب حركة كبيرة في الساحة الموجودة خلف بيتنا والقريبة من سور المقبرة. سيارات محملة بالسجاد والحطب والأباريق ولوازم القهوة والشاي والمباخر؛ استعدادًا لمناسبة ما، والتي تكون في العادة زواجًا، وأحياناً بدون مناسبة. يتم تنظيف الساحة أولًا، وترش بالماء، وبعدها يفرش السجاد، وفي زاوية قريبة تنصب خيمة صغيرة للتجهيزات، ويشعل الحطب والفحم لتجهيز القهوة والشاي، وأيضاً لتسخين الطيران والطبول.

فن السامري هو المقصود في هذه الليلة من قبل الكثير من أبناء الحي وخارجه، وموقع بيتنا استراتيجي وقريب جدًا من الاحتفال، ولكن كتب علينا ألا ننام في مثل هذه الليلة؛ فقرع الطبول والطيران نسمعه بوضوح في البيت وكأن فراش نومي في وسط الميدان.

تأقلم أهل الحي مع هذه المناسبات، وأحبوها؛ فالأغلبية منهم بدأ عليهم الرضا من وجود حفلات السامري. لقد اعتادوا عليها، ومعارضتهم لها قد تفقدهم صداقات الكثير من محبي هذا الفن الشعبي. أما البقية، وهم الأقل، فكانوا معارضين لأسباب دينية؛ فالغناء حرام، والسهر لفترة طويلة شي غير مرغوب فيه.

كنت أنا من الفئة التي أحبت وجود هذا الطقس الغنائي (السامري) في الحي، بل وأنتظر مجيء يوم الخميس بحماس.

أقترن الحي بالسامري، وأصبح علامة مميزة له بين الأحياء الأخرى، بل أصبح من الجهات التي يقصدها الكثير من أهالي الأحياء الأخرى، من مختلف مدن وقرى الأحساء وبالذات، في ليلة الجمعة.

بعد صلاة العشاء، يبدأ كبار السن بالتوافد. يقضون بعض الوقت في الأحاديث، وشرب الشاي والقهوة، ثم تبدأ الأعداد في الزيادة. يبدأ تسخين الطيران والطبول، والجلوس في صفوف منتظمه ومتقابلة، مع تجمع ضاربوا الطيران والطبول في وسط الساحة، وترك مساحات واسعة حولهم تجذب من أراد أن يرقص بشكل مفرد أو ثنائي، ومعهم آخرون يعيشون عوالم مختلفة لهم رقصهم الخاص المليئ بالانتشاء.

يبدأ الحماس في الغناء تدريجياً، فهناك السامري الثقيل، والذي يكون في بداية السهرة؛ والآخر الخفيف في نهايتها، ويزداد الحماس أكثر عندما يتساقط الممسوسون بالزار في داخل الساحة.

هناك أسماء من المهم تواجدها في السامري؛ لتظبط الجميع وتنظمهم، وتفكك الاشتباكات التي قد تحدث أثناء اللعب، وبالذات في الثلث الأخير من الليل، عندما يبدأ العديد بالتساقط في وسط الساحة لنشوتهم الكبيرة بأغاني السامري المتقن، وتأثرهم بخفقات الطار ودمدمة الطبل التي تدخل القلوب مع كلمات الأغنية المؤثرة في النفس، والتي يكون لها وقع كبير داخل القلوب المتعبة؛ لتجعل الأجساد تتمايل طربًا بحركات جميلة وموزونة يمنة ويسرة، والأمام والخلف، صعوداً على الركب وانخفاضًا على الأرض؛ على وقع  الإيقاع المنضبط، منتشين برائحة (الجاوي)؛ وهو نوع من البخور قوي الرائحة يوضع في المباخر، ويدار به على رؤوس الراقصين الذين يعيشون حالة من الحلم القريبة من (الشيزوفرينا)، المؤقتة فيحلقون في عوالم من الأحلام والخيالات الجميلة والشعور بالنشوة الممزوجة بالألم؛ فتتحول ردة فعلهم على الواقع رقصات شبه عشوائية بإشارات وأنين وأفعال قد تكون مؤذية ومؤلمة. البعض يضرب جسده بيديه بقوة، وآخر يلتهم الجمر، وغيرهم تتغير أصواتهم وكأنهم يعاقبون أنفسهم ليتطهروا.

قال لي أحد الأصدقاء أنه شاهد مبارك ذلك الشاب المعوق، والذي يستعين بكرسي متحرك في تنقلاته يرقص بشكل طبيعي في وسط الساحة، واقفاً على قدميه ويتحرك برشاقة! بل وأجمع الكثير من أصدقائي أن منصور صاحب محل إصلاح الدراجات الهوائية، وهو الأبكم والأخرس في نفس الوقت، شوهد أكثر من مرة في وسط ساحة السامري يرقص ويغني بصوت جميل!

في العادة، يتم السيطرة على هذه المشاعر المهووسة من أحد الكبار العارفين للزار المتواجدين داخل الميدان لهذا الغرض. من أشهر الشخصيات المؤثرة في ضبط السامري، والتعامل مع مثل هذه الحالات، العم (الخال فارس) رحمه الله، والذي يتسم بشخصية قوية ومؤثرة يتميز بهدوءه، وبعينيه الواسعتين، وبابتسامته المريحة، وبصفاته الجسدية المهيبة؛ فهو أسمر اللون؛ ضخم الجثة، وطويل القامة؛ أنيق بثوبه الأبيض والسديرية الرمادية وغترته البيضاء التي يتوسطها عقال أسود نحيف؛ تشم فيه رائحة دهن العود والبخور من مسافة بعيدة، ويزين يديه بخواتم لها فصوص براقه كل فص منها له حكاية. كان يسكن في منزل صغير مقابل المقبرة، برفقة والدته رحمهما الله. هذا البيت قبلة لمن يشكو من ضر الزار؛ فكان خبيرًا في التعامل مع الطالبين للشفاء بالقراءة عليهم، أو عمل طقوس راقصة في أحد المنازل الأكبر مساحة، يحضرها أهل الممسوس بالزار وبعض الخاصة من أهل الخبرة في استخراج الجن.

عندما يحضر الخال فارس يكون الانضباط أكبر؛ بتواجده في وسط الساحة يرقص بهدوء؛ مداعبًا سبحته الصفراء الطويلة بين أصابعه، ويبدأ بمسح رؤوس المنتشين رقصًا ليعمهم الهدوء والطمأنينة.

أسماء أخرى شهيرة لها حضورها القوي في السامري؛ فهناك ناهض، وماجد (ميود)، وعازف الطبل الشهير علي بوسعد، وسليم بومحمد رحمهم الله جميعاً

كنت، وأنا صغير، أستمع للكثير من الحكايات والأحداث التي تكون أثناء احتفال السامري. من الغرائب التي كنت أسمعها، أن بعض من به مس يأكل الجمر، ومنهم من يمسك الحصى ويضعه في المدخن فيتحول إلى بخور يطيب به الحاضرين، وأن الخال فارس إذا لمس أي شخص فلابد أن تسري في جسده كهرباء قوية ويسقط داخل الساحة. لذلك، انتابني الخوف الذي جعلني أكتفي بالاستماع إلى السامري، أتطلع إلى الساحة من مكاني القصي وأنا جالس على دكة البيت. في بعض الأحيان، أتجرأ بأن أراقب من بعيد عندما يشجعني ابن خالي (توفيق) وهو أشجع مني في مثل هذه المواقف؛ بينما أغلب الأحيان، أكتفي بالاستماع لأغانيهم وأنا متمدد على فراشي فوق السطح.

في أحد الليالي الطربية الحماسية، أقنعني توفيق أن أحضر بشكل مباشر؛ ليقف معي في الصفوف الخلفية، ونشاهد عن قرب مايحدث داخل الساحة، بعد أن روى لي العديد من الأحداث، والغرائب الخارقة للواقع. امتثلت لرغبته بعد تردد، وذهبت معه لأشاهد مايحدث، وفي داخلي رعب كبير في بداية الأمر، ما لبث وأن بدأ بالتلاشي شيئا فشيئاً، حتى وجدت نفسي اتمايل طربًا ورقصًا بشكل خجول مع الواقفين بجانبي. كان لصوت الطيران، وقرع الطبل شجن يدخل القلب يرافقه أصوات السامرين الجماعية المتماشية مع الألحان العذبة الراقصة. كان بجانبي شاب أسمر يرقص بشكل أكبر، وبحماس أكثر، وكنت معجبا بأدائه المبهر الذي لفت نظر جميع من كانوا بالقرب منه. فجأة، يتقدم الخال فارس من الساحة مخترقًا الصفوف ومتوجها إلى الشاب بجانبي، شاخصًا بعينيه الكبيرتين واللتين تحولتا إلى اللون الأحمر، أُفسح الطريق له ليمسح على رأس الشاب، والذي دبت فيه كهرباء عجيبة؛ ليقوم بالضرب بيديه على صدره مع إصدار أصوات قوية شبيهة بالأنين الحزين، ويقفز بشكل بهلواني مبهر إلى داخل الساحة؛ في الوقت ذاته، الذي وليت فيه هاربًا مرعوبًا إلى المنزل فلست بحاجة إلى مسحة رأس من الخال فارس.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.