الوجود العربي في صقليا

0 859

Roberta Denaro – ترجمة سعاد خليل – ليبيا

أود أن اتخذ لهذه المقدمة المختصرة عن الوجود العربي في صقلية أبيات لشاعرين عربيين تكونان كنقطتي رجوع، كما لو كانت نهايتي قوس. أضع في البداية أبياتًا للشاعر محمد ابن القطاع والتي تعد شاهدًا على فخر الفاتحين الاغالبة القادمين من شمال أفريقيا:

نحنُ بنوا الاغلب سُدنا الورى                     طِراَّ ببذل النائل الغُمر

والضربُ بالبيض رؤوسَ العدى                  والطَّعن في اللبات بالسمر

 وأضيف بعدها بيتًا جميلًا للشاعر العربي عبد الرحمن الاطرابنشي، الذي عاش في بلاط الملك النورماندي روجير الثاني

فوَّارة البحرين جمَّعت المُنى            عيش يطيبُ ومنظر يُستعظُم

الشاعر كتب هذه الأبيات، في الوقت الذي أصبح فيه الوجود العربي في صقلية هامًا ومستقرًا، والذي لم يعد يمثل على كل حال السيطرة السياسية، والعسكرية الحاكمة على الجزيرة، والتي انتقلت منذ عام 1061 آل النورماندين. وقد كُتِبَت هذه القصيدة قبيل الولادة الرسمية لشعر دارج خلال المدرسة العربية الناشئة في بلاط الملك فريدريلك الثاني Fredrich II، الذي كان حسب رأي بعض العلماء على صلة قوية بالشعر العربي.

صقلية هي المنطقة الايطالية الوحيدة التي أنتج فيها الوجود العربي أثارًا دائمة من وجه نظر تاريخية فنية لغوية وثقافية، (إلا إننا يمكن نستثني إمارة باري (847-871) ومدينة لوشيرا التي بقيت فيها بعض الجاليات العربية)؛ ولا يزال الحوار عن كيفية وأنماط المساهمة العربية في تاريخ الثقافة الأوربية مفتوحًا؛ إلا أنه وبدون شك، كما الحال في إسبانيا، ساهم الوجود العربي الإسلامي في صقلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تشكيل بعض أهم تطورات الثقافة الأوربية، كما أن هذا الإسهام يعد تمهيدًا لعصر النهضة؛ إلا أن الشيء المؤسف أن الإسهام العربي لا يُعطى حق قدره في كثير من الأحيان.

لنتناول، الان باختصار، السبل التي من خلالها تكونت الصلات بين صقلية البيزنطية والشاطئ الآخر من البحر المتوسط ولنرى بعض أهم خصائص الثقافة الجديدة التي تدفقت منه.

لقد كان تأول الغزوات العربية في صقلية، التي كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية في ذلك العهد، في عامي 652و669؛ وفي عام 704، بدأت أول حملة عربية ضد الجزيرة بقيادة المسلمين المولودين في المغرب، ثم توالت بعد ذلك غزوات عديدة في عام (720-725-728-730….الخ.

وفي عام 740 تم حصار “سيراكوزا”، ولكن الاستيلاء الحقيقي تم فقط في عام 827 (212ه)، وذلك في 18 يونيو (19 ربيع الأول) عندما نزل ما يقارب عن  (10000) رجل على متن أسطول مكون من (100) سفينة أبحرت من شواطئ سوسة، ونزلت في مازر، ومن هناك بدأوا في فتح صقلية. كان يقودهم أسد ابن الفرات، وهو عالم تشريع شهير متقدم في السن (حسب المؤرخين أنه كان تلميذًا لأبي حنيفة ومالك بن انس) ولم يكن خبيرًا بالحرب، لكنه استطاع أن يحمل المسلمين إلى نصر. بعد أحداث عديدة، سقطت باليرمو في عام 831 (غابريلي- سيراتو ،ص.45) وفي عام (902) سقطت تاورمينا (طبرمين) وبذلك اكتمل فتح الجزيرة.

هنا تجدر الإشارة إلى مسالة حاضرة جدًا (وكثر فيها الجدال) في المراجع الدراسية، وهي العلاقة بين صقلية وأفريقيا التي أتى منها الرجال الذين نشروا الإسلام في صقلية. لهذا الغرض، يجب أن نذكر ما كتبه اومبرتو ريزيتانو (Umberto Rizitano) العالم الايطالي الذي انشغل كثيرًا بهذا الموضوع، والذي وصف صقلية بأنها “الابنة الروحية لأفريقيا”، وذلك حسب اتجاه تفسيري اقترحه المؤرخون العرب أيضًا. كذلك، يمكننا الرجوع إلى المقدمة التي كتبها الدكتور إحسان عباس “معجم العلماء والشعراء الصقليين” (بيروت، 1994) وكتابه “العرب في صقلية، دراسة التاريخ والأدب” (بيروت 1999)، أو إلى دراسة الدكتور عارف الدوري ” صقلية، علاقتها بدول البحر المتوسط الإسلامية من الفتح العربي حتى الغزو النورماندي 827-1091″ (بغداد ،1980) الذي يؤكد فيها العلاقة الوثيقة بين الأحداث السياسة الاقتصادية والثقافية في صقلية الاسلامية مع العائلات الحاكمة المسلمة في البحر المتوسط. في الوقت نفسه، من المهم ملاحظة كيف قام الصقلي ميكيلي أماري، وهو أشهر مؤرخ لصقلية العربية، بإبراز ملامح استقلال المستعمرة عن منشأها المغاربي، بينما لوحظ في أزمنة أحدث زيادة الرقابة المستمرة التي كانت القيروان تمارسها على السياسة والإدارة الصقلية (M.Talai ,Lmirat aghlabide Historie politique , Paris 1966). أي أنه، من ناحية العائلات الحاكمة من الأغالبة، كان هناك ميل دائم إلى الحد من صور استقلالية المستعمرة، حسب سياسة تم استرجاعها حتى بعد تغيير الأسرة الحاكمة (910)، عندما انتقلت صقلية إلى يد الفاطميين (كما حدث لأفريقيا)، مع الاحتفاظ دائمًا بالعلاقات رسميًا على الأقل، مستقلة عن حكامها من شمال أفريقيا.

على كل حال، يجب أن نذكر أنه بالمقارنة مع فترة حكم الاغالبة، الفاطميون أعطوا السلطة لقبيلة عربية موالية لهم، وهم بنو كلب الذين قاموا بتأسيس إمارة وراثية في الجزيرة، والتي على أرض الواقع، وليس بصفة رسمية، احتفظت بشيء من الاستقلالية، وكانت تتزايد استقلالية من الاسرة الحاكمة في أفريقيا والتي لم تعط أهمية لهذه الصورة التي كانت خارجة عن المألوف.

في عهد ابني مؤسس هذا الحكم الوراثي تم تحقيق انتصارات عسكرية أكبر. أما عام 962، فقد شهد خنق ثورة تاورمينا، والتي تم تسميتها المعزية نسبة إلى الخليفة الفاطمي للقاهرة المعز لدين الله الفاطمي، وفي عام 982، كان آخر أكبر انتصار على البيزنطيين في روسانو في منطقة كالابريا؛ وكان حكم الأمير أبو الفتوح يوسف يمثل الفترة الأكثر استقرارًا في (989-998)، بعد ذلك بدأ انحدار الإمارة.

وكما كتب غابريلي، إن التسعين عاما لحكم الكلبيين لصقلية تعد الفترة الذهبية للإسلام في صقلية بين قرن الحكم الاغلبي وبين الدخول المسيحي. وتشهد على تألق هذا العهد الصفحات التي كتبها ابن حوقل (في القرن العاشر)، الذي ترك لنا وصفًا دقيقًا، وأحيانًا لاذعًا لمدينة باليرمو(Palermo) في أوج ازدهار الفترة الكلبية؛ حيث تمكن شخصيًا من ملاحظتها أثناء إقامته في عاميي-972 (غابريلي ، ابن حوقل والعرب في صقلية، في XXXVI(1961) ص.253-245) الطبعة العربية (صورة الارض أو كتاب المسالك والممالك ) في((Opus geographicum auctore Lbn Hawal ed .j.k. kramers,Lug.Bat 1938-3

ومرة أخرى، غيرت الأحداث السياسية في أفريقيا الشمالية التوازنات في صقلية: ابتداء ًمن عام 973، أخذ الزيريون مكان الفاطميين في أفريقيا، وطالبوا بحقهم في صقلية، والتي حاول آخر الكلبيين الدفاع عنها بالتحالف مع البيزنطيين أعدائها السابقين، إلى أن انتهى حكم الكلبيين بطرد آخر امراءها؛ وهو الحسن والملقب الصمصام (53-1040)، وتم تقسيم صقلية بين العديد من القادة المحليين، مثلما انقسمت الأندلس في عهد ملوك الطوائف، والسقوط في هذه الفوضى مهد الطريق للاحتلال النورماندي. من ناحية أخرى، لم يحاول الزيريين المحافظة على الجزيرة بعد هزيمتهم في ميسيلميري (1068) على يد روجير، فأبحروا إلى المهدية تاركين المسلمين الصقليين لمصيرهم.

وفي يناير 1072، سقطت باليرمو بعد حصار طويل حيث لم تعد بعد فترة (240) عامًا مدينة إسلامية، وسافر حيسكارد لحروب اخرى تاركًا لأخيه حكم صقلية التي سقطت غالبية مدنها ماعدا (فال دي نوتو، جيرجينتي) التي بقيت تحت السيطرة العربية.

ظهرت شخصيات بارزة أسطورية تمثل المقاومة الإسلامية الأخيرة، ضد الاستيلاء المسيحي على الجزيرة، أمثال ابن عباد الذي قاوم في عام 1086، بعد ذلك ظهر ابن عباد آخر نشط في معاقل انتيلا وياتو، إلا أنه استسلم لفدريك الثاني الذي أعدمه.

آخر نيران الثورة انطفأت مع موت آخر صورة دخلت الأساطير، وهي ابنة ابن عباد، والتي تظاهرت بالاستسلام؛ فجذبت في قصرها بعض فرسان الإمبراطور، وجهزت لهم كمينًا أدى إلى ذبحهم جمعيًا. وحسب التاريخ، الخيالي بالتأكيد، انبهر الامبراطور بهذه الشجاعة الكبيرة، وعرض الزواج على الفتاة الشجاعة بهدف الحصول منها على ابن ذات شجاعة فريدة، لكن البطلة رفضت الزواج منه، وقاومت الحصار، وقتلت نفسها قبل ان يتم الانتصار عليها. هذه الرواية المشابهة للأغاني الفرنسية “شانسون دي جيست”(أي أغاني البطولات) هي الذاكرة التاريخية المحورة بالتأكيد لنهاية المقاومة الاسلامية في صقلية، وعلى كل حال هذه النهاية لا تتوافق أبدا مع نهاية الوجود العربي الاسلامي في الجزيرة.

على الرغم من هجرة العديد من العرب الصقليين إلى الشواطئ المصرية والأندلسية، ومع السيطرة النورماندية على الجزيرة، يجب أن نذكر أن صقلية كانت ثمرة للتكامل الثقافي الذي أعطى نتائج رائعة لا تزال واضحة في النصب والأعمال الفنية في باليرمو وفي بقية صقلية. وثمة شاهد آخر على حياة المسلمين في صقلية في فترة الاحتلال النورماندي، هو الرحالة الشهير ابن جبير (1217-1145)، والذي وصف في صفحات رحلته كيف كانت تبدو له الجزيرة عندما وصل إلى مسينا(Messina) بعد أن نجا من الغرق. وقد وصف المدينة مليئة بالقذارة والرائحة الكريهة، خشنة لا تبدي لطفًا في معاملة الغريب؛ أسواقها نشيطة ومأهولة، تتوفر فيها بكثرة كل الاصناف الملائمة للعيش الرغد؛ وهي آمنة في الليل والنهار حتى لو كنت غريبًا وجهًا ويدًا ولغةً. والشاهد الاخير على ثقافة يقفل فصلها بنفي العرب في لوشيرا، في عام 1300، يأتي من “كتاب روجير” للعالم العربي الشريف الادريسي (1165) الذي ألف هذا الكتاب بناء على طلب الحاكم النورماندي لتوضيح خريطة جغرافية فضية كبيرة من عمل المؤلف نفسه.

في النهاية، أود أن اختم بذكر كلمات صافي جبري، والذي خلال سفره في عام 1934 من بيروت إلى مرسيليا عند رؤيته لصخور صقلية عبر عن إحساسه بعبور الحد بين الشرق والغرب (انتقلت من الشرق إلى الغرب)؛ وهنا أتوقف بهذه الصورة لصقلية كأرض لقاء ومرور، وهي صورة يتفق فيها الكثير ممن زاروها مع رأي الرحالة العربي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.